جئتُ لا أعرف ماذا أكتب، أفكّر بالمحادثات الستين المتراكمة في الواتس اب، وبأعمال الجامعة وأبحاث الماجستير الثلاثة لهذا الفصل، وبالقوائم الكثيرة المتشعبة التي أحاول جمعها وتنظيمها في العمل. تبدو الصّورة السطحية للأمر بلونين، لون يعكس حياة شخص منشغل بشكل مثالي يعمل ويدرس ويعيش حياة مثالية، ولون آخر يعكس حياة شخص غريب يقتل نفسه بجِدِّه ويظنّ أنّه بطلٌ خارق أو اخطبوط بثمانيةِ أذرع. ولست في عين نفسي كذلك، ولا أرى في حياتي غير سعيّ مستمر، وكلّ ما أفعله وأسير فيه وسائل، لغايةٍ كُبرى.
أتفهّم غضب الأصدقاء، وتقلّبات مشاعر الأقارب، وسوء جماعةٍ من الزّملاء، وأخجل من التقصير في حقّ معلّم وعمٍّ وخال. ليس لأن العمل أو العلم أو أيّ أمور شخصية أخرى أهمّ عندي من الصِّلة، لكنّه من الكدر الذي جبلت عليه هذه الحياة. وفي خضمِّهِ، أقتنص لترقيع كلّ ذلك أوقاتًا متفرّقة كلّ يوم. ألقى في تلك الأحيان المتفرّقة، ردّ الإحسان بالإحسان، وردّه بالإساءة، وعدم ردّه أيضًا.
وقد تعلّمت من أمي مبدأً أُحسِن على أساسه في مختلف الظروف، أن تكون نيّتي من الإحسان، الإحسان نفسه.. لا لتحليل ردّ ولا للحصول على مثله وليس لاستفزاز طرف مسيء. وأتذكّر في كلّ مرّة قول الله تعالى في سورةِ الإنسان: ﴿إِنَّما نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللَّهِ لا نُريدُ مِنكُم جَزاءً وَلا شُكورًا﴾. والطّعام هنا قد يكون كلمةً طيّبة، أو ابتسامةً عابرة، أو نظرةً حانية، يصنعها المرء لوجه الله -عزّ وجل- طامعًا في رضاه وحُبّه وقربه. ينوي بها الله وحده لا شريك له، دون أن يلتفت إلى المُطعَم، لا إلا ردّه ولا نظرته ولا أقواله أثنى أم هجا.
وبعد غرس بذور الإحسان، ينبّهني أبي دائمًا على أهمية حمل النّاس محمل حسن الظّن. وأرى في أبي طِيبةً لا متناهيةً مع خلق الله أجمعين، وكنت أظنها في أحيان ثقةً في غير محلّها فأذُمُّ عنده فلانًا من النّاس لأهزّ شيئًا من يقينه بالشّك! فيشرحُ لي أمورًا لا أعرفها، أمورًا بسيطة لو فكرت قليلًا لما ذممت من خلق الله إلا نفسي. فيعود أبي مكررًا "يا بنتي احملي الناس بمحمل حسن الظن"، وما زلت أتعجّب من الهودج الذي يرفع أبي فيه النّاس بحسن ظنه، وأسأل الله أن يرزقني حكمته.
بقيت أتفكّر بعد كل موقف في معنى أن أحمل أنا الناس محمل حسن الظن، ماذا يعني هذا غير أن أُحسِن بهم الظن؟ فوجدت أن الحمل في الأصل إعانة ومساعدة، وتدفّق بعدها المعنى فيّ تدفق السيل الذي يغسل المدينة من كلّ ما تكدّس فيها من غبار وأتربة. لماذا؟ لأنني وفي أيام الشغل الكثير والضغط الشديد، أشعر بأن أقصى ما أريد أن يساعدني النّاس به حُسن ظنّهم. ألا يفتعلوا مشكلةً أو غضبًا أو قطيعةً لأنني تأخرت في الردّ على رسالة، أو فاتني اتصال، أو غِبت عن بعض مراسلاتهم اليومية المهمة. حتّى لا أنشغل في خضم المعركة بقريب يراني عققته أو لم أؤدي حقّه، ولا بصديقٍ نسيت طلبه ولم يذكّرني به. ما ضرّنا لو ساعدنا المرء على تجاوز أيّامه المزدحمة بِخفّة وجودنا في حياته؟
أسأل الله في كلّ مرّة ما سأله رسولنا ﷺ «اللَّهمَّ اجعَلْني لكَ شكَّارًا لكَ ذكَّارًا لكَ مِطواعًا، إليكِ مُخبتًا لكَ أوَّاهًا مُنيبًا، ربِّ اقبَلْ تَوْبتي واغسِلْ حَوْبتي وثبِّتْ حُجَّتي وسدِّدْ لساني واسلُلْ سَخيمةَ قلبي»* وأرى في هذا الدّعاء من الصّفات، ما لا يناله المرء إِلّا بسلامةِ صدره وارتقاءه المتواصل في مراتب حسن الظّن. وأوّل إحسان المرء لنفسه، إحسانه الظّن بخالقه، فيدرك أن كلّ ما يمرّ عليه من مواقف وأشخاص، إنّما ساقهم إلى حياته الله -عز وجلّ- وأراد بحضورهم ذلك خيرًا يثقل ميزانه ويرفع درجاته.
أروى بنت عبدالله
٢٦ شعبان ١٤٤٢هـ
٩ ابريل ٢٠٢١م
*قرأت شرحًا لما في الدعاء من لطائف، لعلّي أرفعه في تعليقات التدوينة بعد قليل.. وما ألذّ أن يدعو المرء مقتديًا برسولِ الله ﷺ وعارفًا بما يقول ويطلب!
ردحذف▪️وقد كان من دُعائِه ﷺ
وفي شرحه لطائف كثيرة، تأمّل :
« لك شَكَّارًا »: كثيرَ الشُّكرِ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، وفي القولِ والعمَلِ، وفي السِّرِّ، وفي العلَنِ، وفي تقديمِ الجارِّ والمجرورِ: "لك" دَلالةٌ على الاختِصاصِ، أي: أخُصُّك بالشُّكرِ؛ لأنَّك خالِقُ النِّعَمِ، ومُعْطيها، سأَل اللهَ التَّوفيقَ إلى الشُّكرِ؛ لأنَّ به تَدُومُ النِّعمُ.
« لك ذَكَّارًا »: كثيرَ الذِّكرِ لك في كلِّ الأوقاتِ والأحوالِ، وفي سُؤالِه تعالى التَّوفيقَ إلى الذِّكرِ؛ لأنَّه هو أفضلُ الأعمالِ.
«لك رَهَّابًا» : خائِفًا منك في كلِّ أحوالي.
«لك مِطْواعًا»: كثيرَ الطَّوْعِ، وهو الانقيادُ والامتِثالُ والطَّاعةُ لأوامِرِك، والبعدُ عن نَواهيك.
«لك مُخبِتًا»: كثيرَ الإخباتِ، وعلامَتُه: أن يَذِلَّ القلبُ بينَ يدَيِ اللهِ تعالى إجلالًا وتذَلُّلًا، أي: لك خاشِعًا متواضِعًا خاضِعًا.
« إليك أوَّاهًا مُنيبًا »: والأوَّاهُ هو: كثيرُ التَّضرُّعِ والدُّعاءِ والبُكاءِ للهِ عزَّ وجلَّ، والمنيبُ كثيرُ الرُّجوع إلى اللهِ مِن الذُّنوبِ والخَطايا.
«رَبِّ تقَبَّلْ توبَتي»: اجعَلْها صَحيحةً بشَرائِطِها وآدابِها، وتَقبَّلْها منِّي.
«واغسِلْ حَوبَتي » : امْسَحْ ذَنبي وإثمي، وذَكَر الغَسْلَ لِيُفيدَ إزالتَه بالكُلِّيَّةِ.
«وأجِبْ دَعْوتي»: استَجِبْ كلَّ دُعائي.
«وثَبِّتْ حُجَّتي »: ثبِّتْ حُجَجي وبَراهيني في الدُّنيا على أعدائِك بالحجَّةِ الدَّامِغةِ، والدَّعوةِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكَرِ بالأدلَّةِ البيِّناتِ السَّاطعةِ، وثبِّتْ قَولي في الآخرةِ عِندَ سُؤالِ الملَكَينِ في القَبْرِ، والحُججُ هي البيِّناتُ والدَّلائلُ.
▪️ ثم خَتم ﷺ دُعاءَه بقولِه:
« واهْدِ قَلْبي » : أرشِدْه ووفِّقْه إلى مَعرِفتِك، ومعرفةِ الحقِّ والهُدى والصِّراطِ المستقيم.
« وسَدِّدْ لِساني » : صَوِّبْ لِساني؛ حتَّى لا يَنطِقَ إلَّا بالحقِّ، ولا يَقولَ إلَّا الصِّدْقَ.
« اسْلُلْ سَخيمةَ قَلْبي » : أخرِجْ مِن قَلْبي: الحِقْدَ والغِلَّ، والحسدَ والغِشَّ.