الأربعاء، 14 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (١٤) جِسْر من الأفكار..


عن الوقتِ الذي يتسلل فيه شعور الليلةِ الأولى والصّباح الأوّل. عن وخزةِ الجُوع الأولى، وما تحدثه من فراغ غريب. يوم يتخلله استشعارٌ لهدوء الأَرض، واختلافِ النسمةِ والسكنة. تتبدّى فيه البركاتُ تباعًا زمانًا ومكانًا، ويتنزّل فيه من الخير انشراحُ الصّدور وتوّسع البصيرة. تخطو فيه الأرواح مشتاقة توّاقة، يستشعر به القلب وجوده ونبضه الذي تخفف بالخلو من كل أمر فلا يثقله عن المسير إلى الله شيء. 

 ما أعظم شعور أن تقرأ وردك من القرآن مستحضرًا عظيم الثواب ومدركًا أنّ المجاهدة ثمنُ الأعمال والأجور المضاعفة، فتبدأ ختمة جديدة، وتتابع مراجعتك للمحفوظ. 

...

وبالرغم من كلّ تلك المشاعر الاستثنائية، لم يتوقف الرّكض في مناكب الحياة ولم تهدأ وتيرته ولو قليلًا. غدًا تسليم البحث، الإثنين عرضه، الثلاثاء تسليم بحث آخر والأربعاء عرضه. عكفت على إنهاء الأعمال في المكتب الشّهر الماضي، وهجرت تلك الأبحاث إلا قليلًا، عليه فإن النتيجة الحتمية للأمر أن أعتكف عليها ويدور فلكي حولها فقط، حتّى أتمه في الموعد. لكن هذا الأمر بات مستحيلًا الآن.. 

وتذكرت هنا قولًا قرأته لروبن شارما قال فيه: "إنّ كلّ ما يُضاف إلى الذّات هو عبء مثلما هو مفخرة". ويجعلني هذا أتأمل في فكرة طرحتها في وقت سابق مع الصّديقة الزهراء، عندما تحدثنا عن خياري العمل والدراسات العليا. 

حدّثتها عن المرحلة التي يصل فيها المرء إلى نقطةٍ يشعر فيها أنّه ممتلئ، نهل الكثير، وأخذ أكثر مما أعطى. فيقصد طريق البحث عن عمل، ليفرّغ جزءًا مما تكدّس في داخله، ويقدّم للآخرين شيئًا مما أخذ، أن يعطي ويبذل ويقف مسؤولًا عن أعماله وعملاءه ويطوّر خدماته. 

وعن المرحلةِ التي يرى فيها المرء نفسه متعطّشًا للمعرفة، لا يريد أن تتراجع همّته في الطّلب، ولا يريد أن يتواضع ويرضى بالمستوى العادي الذي وصل له في مراتب العلم. فيتّجه ليغذّي عقله ويتابع بناء أفكاره، يجالس معلّمين جددًا خاضوا في المجال من التجارب ما يضيف إليه وإلى رحلته مغانم كثيرة. 

ولأنّ في الطّريقين ما لا يتغذّى إلا بالمرور على جِسرٍ من التّعب، على المرء في كليهما أن يحتسب أجره ويجدد نيّته؛ ليجد بعدها قوّة فكريّة وعلميّة وعمليّة يحسّ بها كما يحس بقوّة لحمه ودمه من جسمه. 

وأذكر هنا قولًا للرافعي، حيث وصف شيئًا من اللذّة بقوله: "ساعة الرّاحةِ بعد أيّام من التّعب، هي في لذّتها كأيّامٍ من الرّاحةِ بعد تعب ساعة". ولطالما منّيت نفسي بساعةِ الرّاحةِ تلك، فقلت لا بأس بتعب البدايات، بشهرين من الشدّة وآخران تصحبهما متعة إنجاز ما تم قبلهما وبعدهما يأتي رخاء الاستقرار في العمل. 

وقفت فجأةً كمن صُدِمَ بجدارِ فكرةٍ يؤمن بها، ألم نقل أن جمال الرحلةِ ومتعتها في الطّريق لا الوصول فحسب؟ عمدت بعد تذكّر هذا إلى قاعدةٍ سِرتُ بها الشهرين الماضيين، وهي: لا عمل ولا دراسة يومي نهاية الأسبوع، لا الجمعة ولا السّبْت. كنت فيهما أقضي كُلّ الوقت، كُلّه، في القراءة. أعيش مع الكتاب حياةَ من ليس له شغل غيره، أعود بعدها يوم الأحد وأنا مستعدة تمام الاستعداد لبذل كلّ الوقت بل وزيادة لإتمام الأعمال وحضور المحاضرات بذهن متفاعل فاعل. 

أتأمل الفكرة اليوم وأفكر، رمضان هو هديّة الطّريق الذي نسير فيه عمرنا كلّه، هو نهاية أيّام الأسبوع تلك لكنّ العداد أكبر وأوسع وأشمل فيه. ما الأمور التي تماثل العمل أو الدراسة في الصّورة الأكبر لحياتنا؟ ممَ نتخفف بعد أحد عشر شهرًا من السّعي الحثيث؟ ولمَ كنّا نسعى وننصب كلّ ذلك الوقت؟ إن في الخِفّة والبركة التي ميّز الله بها هذا الشّهر، تيسيرًا للمعسرات، وهو ما تمنحنا إيّاه بشكل بسيط الأيّام التي نقتنصها أسبوعيًا. ومن هنا أعود لما قلته في البداية، عن الشعور العظيم الذي تمضي به إلى الله مدركًا أنّ المجاهدة في هذا الفصل الخاص من حياتك، ثمن الإعانة على أعمالٍ مضاعفة الأجور، لا يعينك ويقوّيك على كلّها إِلّا الله وحده. لتبلغ بذلك كلّه قول المنعّمِين القائلين ﴿الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي صَدَقَنا وَعدَهُ وَأَورَثَنَا الأَرضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيثُ نَشاءُ﴾..  

أروى بنت عبدالله 
١ رمضان ١٤٤٢هـ
١٤ ابريل ٢٠٢١م 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق