الثلاثاء، 23 نوفمبر 2021

أصوات* (١) استهلال..

بسم الله الرحمن الرّحيم، بسم الله السميع البصير، بسم الله القريب المجيب، بسم الله الفتّاح العليم.. بسم الله الكريم الذي وسعتنا رحمته، وغشيتنا السكينة فضلًا منه، ورزقنا ظلًا وارفًا نتفيأه بين آياتِ كتابه العزيز. بسم الله الذي علّم بالقلم، بسم الله الذي علّم القرآن وجعَل أهله من خاصّته، ومنّ عليهم بالسكينة والطمأنينة، وبالملائكة الطوّافة على مجالس الذّكر تحفّ الأصحاب الذين يتعاهدونه تلاوةً ومدارسةً. 


بدأت تفاصيلُ الكثيرِ من الحكايا في شاشة صغيرة، ترى فيها دوائر ملوّنة تتلوّن بها الأيام وتتزيّا بها ساعات الفجر الأولى. "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يا أروى"، "أذكار الصّباح يا رِفاق"، "ارفعي أقصى اللسان ووسطه لينحصر الصّوت ويعلو"، "ساعة الترفيه يا أصدقاء"، "هلمّوا إلى رياض الذكر"، "تدبّر اليومَ مع الآية ٢٩ من سورة الفتح"، "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا"، "وصلنا عند قصة صاحب الجنتين"، "مبارك يا أصحاب أتممنا سورة البقرة".. كان لكلّ نداءٍ وقعُه، ولكلّ كلمة أثرها، كانت الأصوات تتابع بانسجام، وتتداخل. 

وبعد وقت مستقطع من الزّمن، جاءت البُشرى لتطمئن القلوب بالقُرب. كانت العودة إلى مقاعد الدراسة حضوريًا خبرًا سعيدًا ومبهجًا لسبب عظيم! سنتحلّق جنبًا إلى جنب، نتلو الآيات ونبصر أثرها في عيون الأصدقاء، وفي أصواتهم، الأصوات التي لن يقطعها إغلاق مكبّر الصّوت ولا مداهمة خارجية في الأرجاء. بدأت اللقاءات بشيء من الفرحة العارمة في أحيان، وبشيء من التوجس في أحيان. هل هذا العالم حقيقي؟ هل الأصحاب الذين يبدأ اليوم بالقيام آناء الليل معهم حاضرون أمامنا الآن ويتحدّثون إلينا؟ هل هم الذين صافحتهم أم أن خيالًا مرّ بصدى أصواتهم قبل قليل؟ هل سأجدهم في نفس المكان إذا جئت غدًا؟ 

نتذاكر معًا كيف بدأ عامنا الهجري بجملة من الترقّبات، هل سنتأهل؟ عند من سنقرأ؟ كيف سيكون الاختبار النهائي؟ هل حفظي ثابت ومتقن؟ كيف كان تطبيقي للأحكام التجويدية ساعة السّرد؟ .. نعيمٌ من الهموم القرآنية! ولطالما استشعرنا في الأثناء فكرةَ أن تحفّ الملائكة حلقاتنا الالكترونية تلك، حلقة كبيرة ممتدّة من أقصى الجنوبِ إلى أقصى الشّمال، كم من الملائكة في كلّ تلك البِقَاع تحفّنا جميعا ما جلسنا وصدقنا واحتسبناها ساعاتٍ في سبيل الله! ياللخيرِ العميم الذي انسكب على هذه الأرض وغشيها.. 

وبعد أن غَفَت وتحوّلت كلّ جوارحك إلى آذان في زمن مضى. تستيقظ! تستيقظ لترى الأصوات وتلمسها ويعلقَ بكَ شذى عبيرها. 

عن الصّديق الذي يتذكّرك في المختبر وهو يتأمّل خضرة الأغصان الممتدة أمامه، ويراك في امتداد الظلال وتداخلها وهو جالس في كرسي برفقةِ مُصحفهِ يُراجِع محفوظه. عن صاحبٍ تركب معه حافلات الجامعة وتتخيلها تدور بكما بين مكّة والمدينة، فتدعو الله كثيرًا أن يروي ظمأ الأشواق بزيارةٍ قريبة. تستفتحان بالآيات كلّ لقاء وجلسة لتتذكّرا أنّ الله جمعكما في أجلّ الدّروب وأطهرها. 

عن صديقٍ يوصلك إلى محاضرتك ويلقي عليكَ أبيات شعر قبلَ أن تفترقا، ويدعو لك كثيرًا، سرًا وجهرًا، بأنّ تكون ملحظ عنايةِ الله في كلّ خطواتك. وصديق تلقاه بعد اجتماعاتك الطّويلة الشّاقة، فيستقبلك بالبشر، ويناولك ما في يده هديةً نظير جهودك ومباركةً لكلّ إنجازاتك الصغيرة، حتّى والذي بين يديه بالونات زرقاء. عن الأصدقاء القادمين من البلاد البعيدة، تسارِع نحوهم شوقًا، وتصافحهم مصافحةَ العائد من سفرٍ طويل بعيد عن أحبابه. 

عن الصّديق الذي تجلس معه كلّ مساء على قارعةِ الطّريق، فتحكيانِ الهزائم الصغيرة التي جبرها الله بالآيات، والعزائم الكبيرة التي دفعها الله بالآيات، وأطرافًا من سعيكما الدؤوب في مختلف مسارات الحياة. عن كلّ الأيّام التي يتلقّاك فيها الصحب بالمحبّة، بالنّجومِ اللامعةِ في أعينهم، بالنّرجِسِ والياسمين، وبمخبوزاتهم التي لا يفارق مذاق حلاوتها قلبك.


عن أَحبِّ الصَحب وأقربهم، صحب القرآن 💙🌿.


أروى بنت عبدالله 
١٨ ربيع الثاني ١٤٤٣هـ
٢٣ نوفمبر ٢٠٢١م 

___________________________
*أصوات 
سلسلة من الحكايا واليوميات عن صَحبِ القرآن 
تدوينة جديدة كلّ يوم ثلاثاء بإذن الله..