الخميس، 29 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٩) عن أُسطول بحري..


كلّ الذين ظنّوا أن السّفينةَ ستغرَقُ بدونهم، غرقوا، وبقيت السّفينة شامخةً تمخر عباب بحرِ الحياةِ بعزمِ ربّانها وإيمانه وصدقه. 

لا تقف الحياةَ عليك أبدًا، ولن تقف لك. في أقصى وأحلك ظروفك ستراها تفلت من بين يديك، وفي رحابتها والسّعة التي تستقبلك بها إفلات من نوع آخر. 

سيكون لك آثار باقية، يتلمسها الأسطول الذي كنت تنتمي إليه، وسيبقى اسمك في بعض الأوراق، ستمر عليها السنين وتنتهي معاملاتها ثمّ تُركن في أرشيف أو مخزن، ثمّ ماذا؟ ستتجدد الأسماء وسيرفع الشرّاع وتُسحب المرساة، وما نقص قارب بالنسبة لأسطول؟ 

هذا ما أقوله لنفسي في كلّ رحلة أدرك معنى أن أكون فيها مجرد راكب، أو مساعد ربّان. إنّ للأساطيل الضّخمة قادتها الذين بنوها خشبةً خشبة، وجمعوا أسلحتها واحدًا واحدًا. أولئك الذينَ مضت بهم الحياة مبحرين رغم العواصف والأعاصير، ورغم قراصنة البحار الذين حاولوا الاستيلاء على مقود السفينة الأولى، وخرائط الكَنز. 

تستطيعُ بعد أن تكسب ثقةَ الربّان والقائد الأوّل، أن تتعاون معه، وقد يُخرج معك فرقةً من أسطوله لتبني لك أسطولًا خاصًّا، وسيُعينك على تقويته ويرشدك في الطّريق. غيرَ هذا لا تكُن أنانيًا، لا تفكّر بالسّرقة، لا تحاول إمساك لجام خيل ليس لك، وإلا سيرديك غريقًا كما غرق من قبلك. 

تقوم الأساطيل الكُبرى بتكاتف كلّ العاملين في سفنها يدًا بيد، يعرف كلّ واحد منهم مهمّته، يعرف التزاماته ويحرص أن يؤديّها بكلّ أمانةٍ ليرضى الله عنه، الله وحده لا شريك له. يتبع خطّة القائد بثقةٍ قويّة، يدلي فيها برأيه دون تعصّب، ويُشارك معارفه وكلّ جديد ليرقى ويتطّور الأسطول. 

يجب أن يؤمن كلّ فرد بأن نجاحه نجاحٌ للفريق، وأنّ نجاح الفريق نجاحٌ لكلّ فردٍ فيه. بهذا تقوى وترقى وتصعد وتتطور، وتستشعر أهمية المجتمع الذي تعمل معه وأهميتك فيه، أهميتك الحقيقة، لا تلك التي تجعلك تظنّ أن تماديك وخروجك خسارة كبرى، تذكّر أنَّك ستكون خاسرًا أيضًا، لأنّ الفريق بقي بمن فيه، وحدك الذي خرجت. 


أروى بنت عبدالله 
١٦ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٩ ابريل ٢٠٢١م 

الأربعاء، 28 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٨) رياحينُ حكايا..


أتذكّر أني أخبرتكم في أحد النّصوص شيئًا عن نهايةِ المراحل في حياتنا وبداية أخرى. مثلها تمامًا نهاية هذا التّحدي. بيد أن من عجائبه أنّي كتبت يوم أمس نصًّا فجريًا ونسيته لأنني لم أنشره، وكتبت مساءً نصًّا آخر. وهذه الأعجوبةُ تدحض فكرة الملل من الكتابة بسبب الانهماك في التحدي.


كان هذا اليوم مرهقًا، مرّت عليّ خلاله ثلاث أخبار وفاة، كان أحدها لفتاةٍ يراودني شكّ بأنها التي كانت تجلس على يميني في المدرسة عندما كنا في الصّف الثّامن. لم أجرؤ حتّى الآن من سؤال أي فتاة أخرى عنها لأتأكد من الخبر أو أنفيه. 


تراكمت عليّ بعض الأعمال، وسيتطلب مني الأمر اعتكافًا حقيقيًا عليها لتفادي حصول أي أضرار. بعد غدٍ اختبار نادي التلاوة النّهائي، المعلّمة تبذل معنا قصارى جهدها، ونعمل نحن فرادى على أنفسنا، نراجع ونتلو ونصحح. بالإضافةِ إلى التزامات أخرى منها استشارة قانونية أجّلت مراجعة أوراقها، وأخرى استشارة بحثيّة عليّ إتمامها خلال يومين. ويا لعجب قدرتي على اختصار كلّ تلك الأعمال في هذه السّطور بينما أراها كبيرة وكثيرة مقابل الوقت الذي يجب أن أتمّها فيه. لا بأس، ييسّر الله كلّ عسير، ويفتح من عنده لمن شاء من عباده، يشدّ وثاق الأحلام ويرزقنا قوّة احتمال وتجاوز العقبات، ويمنحنا طاقة الانطلاق مجددًا كلّ مرّة. 

أتت في هذه الأثناء نُتيلة، لترسل لي مجموعة أناشيد، "أروى، المجموعة الرّابعة عن القوّة والعزم ستعجبك كثيرًا"، لقد أعجبتني كثيرًا يا حبيبة. أُحبّ شخصيًا الجزء الثاني من مجموعات أناشيد قناة بسمة، وفي كلّها ما تأنس به روحُ الطّفولة وتتجدد وتنتعش. ومنها في الجزء الثالث أنشودة الرّاوي، أشعر في كثير من الأحيان أنّها كتبت لي، في معانيها ما يخصّني بشكل عجيب. في مطلعها رياحينُ حكايا، وفي صفة الرّاوي ذاته حكاية خاصّة مرتبطة بطفولتي التي أتذكّر منها نداء الأحبّة لي تدليلًا بالرّاوي.  

يذكّرني هذا بتعلقي القديم بقنوات المجد، وبراديو دال للأطفال بشكل خاصّ، كنت أستيقظ في الصّباح الباكر قبل الجميع لأفتحه في التلفاز لأن إخوتي يفضلون الكرتون المرئي أكثر من السمعي. 

وليس اهتمامي بالإعلام وبرامجه النّابعة من المبادرات السّعودية شيئًا غريبًا أو خارجًا عن المألوف، لا يُفرّط الطفل الصغير بعد أن كبر في فرصةِ أن يتعلّم من روّاد المجتمع الذي تابعه في سنينه الخالية.  

نختم بهديّة الليلة، مجموعة نُتيلة المفضلة لهذا الأسبوع: https://youtu.be/Wn4ALyh_qO0

أروى بنت عبدالله 
١٥ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٨ أبريل ٢٠٢١م 

الثلاثاء، 27 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٧) قالَب من الرّحلة..


يعرض مجوعة من الطّلاب نتائج أبحاثهم لهذا الفَصل، أتأمل الشرائح المحشوة بالكلام وأتساءل، ما مدى الفرق الذي تحدثه زيادة كلمة ونقصان أخرى؟ مضت السّنوات الدراسية السّابقة والأساتذة يعيدونَ علينا فكرة أنّ العَرض يجبّ ألّا يتعدّى رؤوس الأقلام، العناوين، وملاحظات صغيرة كلمة أو كلمتين، لا جملة كاملة الأركان ولا فقرة كاملة. هذه قواعد يعرفها الجميع، ويتبعها الجميع، نَعرف أن حجم الخطّ يجب أن يكون جيدًا ليُرى عن بعد، وكلّ ما يرد كلمات وأرقام استرشاديّة للمتحدّث فحسب. 

لا أعرف لماذا يكتب الطلاب بحثهم كاملًا في عرض شرائح، ولا أفهم جدوى أن يقدّم الباحث عرضًا يقرأ فيه شرائحه فحسب، يستفيض بعضهم في الشرح ويضرب الأمثلة، لكن وجود نصوص كاملة مشتت، يجب أن يستفزّ العَرض فضُولَ السّامع لا أن يقدّم له برتقالة مقشّرة يقرأها ويسرح باقي الوقت. 

أعرف أن امتعاضي هذا من اختلاف المدارس لن يجدي، وأنني يجب ألّا أنسى حتّى لا يتم استصغار بحثي بسبب القالب الكلاسيكي الذي أتبعه. إنّها نهاية الفصل الثاني من رحلة الماجستير، وما زالت بعض الصّور مبعثرة في ألبوم ذاكرتي.. ولعلّ للدراسةِ عن بعد أثرها الذي لا يستهان به. 

كنتُ أُحدّث مُزنة عن أبرز ما أضافته لي هذه الرحلة، فقلت لها أنني لا أبالغ لو قلت أن البحث هو أهم ما تعلمته من الماجستير على الصعيد الشخصي والعلمي والعملي وأعتقد أنّ الهدف من الماجستير أصلا "تخريج باحثين". استخدمت خطط البحث وشكله الذي تعلّمته من الدكتور معن في كلّ ما واجهته من أعمال، وضعت خطة بحثية لمراجعة بعض القوانين، وخطّة بحثيّة للحصول على صورةٍ كاملة للمؤسسة التي أعمل فيها ولخطتها الاستراتيجية القادمة. 

رحلة قابلت فيها أصنافًا جديدة وغريبة من البَشر، وشخصيات قانونية فيلسوفة لا تملك إلا أن تحدّق بكل حواسك حين تتحدّث، ومقررات لم أتوقع عمق ما فيها وتشعّبه. صادفت باحثين مخلصين يفصّلون في كلّ نقطةٍ أوردوها في أبحاثهم، ويتابعونَ بكلّ انتباهٍ أبحاث زملائهم ليدعموها بما عندهم من معارف. واكتشفت أروى خارقة، تعدو نحو ما عليها من واجبات، تنجزها في وقتها تارةً، وتصبح بطلةَ اللحظات الأخيرةِ في أخرى. تعلّمت قولَ لا في أقسى الظروف والمواقف، وتعلّمت قراءة الرسائل وعدم الردّ عليها. رغم أني لم أعتد على الأمرِ بعد، إلا أن الأمور تمضي هكذا في الوقت الحالي... 

في الختام، يجب أن أتنازل عن القالب الذي اعتدته، وأن أضع كلّ ما في البحث في عَرض قد يصل إلى ٣٠ شريحة عوضًا عن الخمسة التي أختصر فيها البحث عادةً. أنهيتُ النّص ولم تنته المحاضرة بعد، ويبدو أنها ستمتدّ لساعةٍ إضافيّة. يبدو من السّوء أن أكتب عن السلبية التي أراها في العروض، مقابل المتعةِ التي أعيشها في هذه الرحلة. تفاصيلها الغريبة مثيرة للدهشة، وتدورُ بي في محيط قانوني عجيب. تجربةٌ فريدة جدًا، لم أتخيل ولم أتوقع أن أخوض مثلها. 


أروى بنت عبدالله 
١٤ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٧ ابريل ٢٠٢١م

*هل نبدأ العدّ التنازلي؟ 



الاثنين، 26 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٦) أيّام قديمة..


أكاد أكتب رسالةَ وداعٍ هذه الأيّام، للكتابة التي أصبحت ثِقلًا في أيام متفرقة من هذا الشّهر، وللمدونةِ التي لم أستطع الانفكاك عنها منذ ميلادها. أمّا الكتابة فأعرّف أن من المُحالِ هجرها، بينما لي مع المدونةِ محاولة واحدة وحيدة، أنشأت يومها مدونة جديدة على الووردبرس، بدأت فيها بكتابةِ قصّة عن فتًى سمّيته عزّام، كنتُ أحاول أن أنقل بها واقع الشباب الجديد كما يُحكى في الكُتب القديمة. جهّزت قبل أن أبدأ، عددًا من الشّخصيات، ومجموعة من المواقف، وبيانات عن أنماط الشخصيات، وتحليلًا لمعاني الأسماء التي اخترتها. وبالإضافةِ إلى المكان والزّمان، رسمتُ القريّة التي ستحدث فيها القصّة، وشلالَ ماءٍ غزيرٍ عند مصبّه شجرة خوخ كبيرة ظليلة. حتّى أنني كتبت مجموعة أحلام لمناماتِ الشّخصيات، وبحثت عن بعض تفسيراتها العامّة. 

كان كلّ شيءٍ جاهزًا ومثاليًا لصُنع تحفةٍ فنيّة وأدبيّة عظيمة، قصة برسومات الكاتب. ولم أكن قد قرأت قصّة الأمير الصّغير وقتها، لا أعرف تفاصيلها ولا ملامح الرسومات فيها. وبعد أن وقعت في فخّ تفضيلها، تذكّرت قصتي المسكينة، لمَ لم أُكمل التّجربة يا ترى؟ لم يكن عندي وقتها ما خلقته في شخصية البَطَل من عَزمٍ سمّيته به، ولعلّ خفوت الشّعلةِ التي حملتها حينها طَمَس الطّريق أمامي. مضت ثلاث سنين، أو أربع ربما، من يدري.. تركت كلّ شيء وحذفت النّصوص التي نشرتها وأغلقت صفحةَ المدونة في أقل من شهرين حسبما أذكر. 

عُدتُ بعدها إلى عالمٍ أَرحَب، كُنتَ فيه وأحوط حولَه. وجدت فجأةً ركنًا كاملًا في مكتبتي لكُتُبِ الأطفال، كَبُر أمامي حين كنتُ ملتفةً نحو غيره من الكُتُب. عرفتِ بعدها أنّ القصّة توقّفت لأنّها لم تستطع أن تتوازن، تميل ميلانًا غريبًا بين الأجيال، تخاطب الطّفل في جوفِ إنسان راشد، ثمّ تتحدّث بلسان الرّاشد إلى الطّفل. ضعت فأضعت كلّ شيء، وانفلتت كلّ الخطط التي رسمتها وتطايرت من ملفها. 

لم أستطع بعدها الوقوف بشكل جادّ أمام نفسي لمواجهتها، عزمت عدّة مرّات على إكمال تحدّيات متعلقة بالكتابة ولم أكمل أيًّا منها، وإكمال هذا الواحد حَدَث جديد ومثير. أعرف أن انتظار الوقت المناسب للكتابة خُرافة، وأن في بعض الطّقوس أعذار واهية. ويا لِهَول ما للإنسان من انتصارات مؤجّلة، أُغلقت ملفاتها وأُهملت في أقسام التنفيذ الرّاكدة.. 

أروى بنت عبدالله 
١٣ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٦ ابريل ٢٠٢١م 

الأحد، 25 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٥) عن أبناء الصّالحين..


مِنَ الفِتَن التي شاعَ ظهورهَا تبدّل قالبِ من كان على الاستقامة فانفصل عنه، بل وعندما تحوّل عنه أصبح أكثر أهل الفجور فجورًا. كأنه يحاول بكلّ ما يستطيع أن يثبت ميله عن ذلك الطّريق. 

تجِد بينهم من رُزِقَ بأبوينِ صالحَين، أو أب صالح، أو أمّ صالحة... اتّبع خطواتهما صغيرًا، يدورُ بينهما يرتّل الآيات ويُسمّع المحفوظ. وما إن كبر قليلًا وانكشفت له الدنيا الدنيّة التي يعيشها جماعة من أصدقائه أو أفراد من محيطه، غرّه ما هم فيه من مُتع كاذبة وجمال ملفّق ولذّة معلّبةٍ مُصنّعة. 

لا يعقِلون في نشوتهم بتلك السّكرات، نِعَم الله عليهم، وحفظه لهم بصلاح أهلهم، والابتلاء الثقيل العظيم الذي يلقونه على كاهِل من شَابَ شعر رأسه قائمًا بين النّاس ناصحًا مُصلحًا. 

ويقول الواحد منهم مصعّرًا خدّه للنّاس، نعم أنا ابن الشّيخ فلان، هذا أبي، لكنّه في وادٍ قديم سحيق غير ذي زرع نافع لهذا الزّمن. وتقومُ الفتاة كاسية عارية نامصة متنمّصة متبرّجة، تتمختر وتتمايل متشبّهةً بأهل الفُجور، تمشي بين النّاس بالمنكّر وتشجّع عليه.. فإذا قيل أمّها فلانة، بُهِتَت الجموع الغفيرة، وقالت والله لو علمتها ابنتها أو ابنته، ما سمعت له كلمة ولا سألته عن شيء في الدّين. وَيَا لسوء ما يجني أبناء مثلُ هؤلاء على أنفسهم وعلى والديهم أمام ربّهم. 


والفِتنَةُ في هذا شيوعُ الفِكرة، فتنةُ يقول متناقلوها أن أبناء الصّالحين أفسد خلقِ الله. ولأنّ في المجتمعات ما يُثبتها، أصبحت تتناقَل كحقيقة محضة. والحقّ في كلّ هذا أن الله يخرج الحيّ من المَيت، كما يخرج الميت من الحيّ. فكما يخرُج فاسد من صالح يخرج صالح من فاسد، 
﴿مَنِ اهتَدى فَإِنَّما يَهتَدي لِنَفسِهِ 
وَمَن ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيها 
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى 
وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسولًا﴾.  

وبعيدًا عن تلك الصّورة... يخرج الصّالحون من منازِل الصّالحين! يخرج منهم حفظة الكتاب وحملة العِلم. فيشمخ من يرفع الرّاية بيمينه، ويحمل الكتاب بيساره. من يتحلّق حوله الطّلاب ومن يؤم بالنّاس ويخطبُ فيهم بالقولِ الحق. 

ومن كلّ ذلك يجبُ أن يكون لنَا معَ قولِ الله تعالى ﴿وَكُلُّهُم آتيهِ يَومَ القِيامَةِ فَردًا﴾ وقفة جادّة، لا نربط على أساسها استقامَةَ فردٍ بفساد آخر، وإن كان من رعيّته، ليس إخلاءً له من المسؤولية، ولكن إبعادًا لأنفسنا عن كرسي القاضي. 

كما أنّ في آيات سورةِ الكهف، صورةً قريبةً من ذات الفكرة، بين الغُلامِ الذي قُتل خشيةَ أن يرهق أبويه طغيانًا وكفرًا، وبين غلامين يتيمين في المدينة حَفِظ الله لهما كنزهما بصلاحِ أبيهما. 


لا تُبعِد هذه اللوحة من الصّور عن نفسك، بل انظر إليها، أيّ الأبناء أنت؟ وأيّ الآباء؟ وأي خَلق الله موضعًا في درب السّائرين إلى الله من أهلِ الاستقامة؟ ... 


أروى بنت عبدالله 
١٢ رمضان ١٤٤٢هـ 
٢٥ ابريل ٢٠٢١م 



السبت، 24 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٤) الحادية عشرة..


سِتّ نصوص أخرى تفصلنا عن النّهاية، لا وقت لديّ لأقف وأُقيّم النّصوص السّابقة، وأكتب النصوص الأخيرةِ بشيء من العَجلة كالمُعتاد. توقّعت أن أكتب النّصوص في وقت أبكر، لكّن كلّ شيء مضى ووقف عن الحاديةِ عشرة معظم الأيّام. 

وقتُ الجُلوسِ الأخير خلال اليوم، يسكن فيه الكَون، وأنعس إِلّا قليلًا. أغلق الأجهزة والدّفاتر، أرفع الأقلام، وأكتب النّص قبل أن أترك الهاتف لأنام. جدولُ عملٍ غريب في رمضان، الذي يُسهَر ليله وتدخل الأجساد في غيبوبةٍ بداية النّهار حتّى منتصفه. أستيقظ للسّحور، أصنع كوب قهوة كمن يقوم ليفطر في أيّامه العاديّة، تجعلني مستيقظة بعدها ومتيقظة للعمل. أعود ظهرًا للقيلولة قبل أن أقرر ما الطّبق الذي سأقدّمه اليوم. يبدأ تجهيز الفطور، نفطر، نذهب إلى المزرعة، نعود لنصلّي التّراويح، العشاء. ثمّ؟ نصل للحاديةِ عشرة. 

تبدو السّاعة بالنسبة لي مَرسَى، أُنيخ على سواحله راحلتي، أكتب بعض النّصوص عادة لكنني لم أكن أكترث بمشاركتها، أكتبها وأنام قبل أن أتمّها. شيء حانق في أحيان، وشيء أكتب فيه صورةَ اليوم والطّقس الشّعوري في أحيان أخرى. 

ولماذا شيء حانق؟
في حِوار مع الصّديقة العزيزة النّاقدة الأديبة مُزنة، كنّا نتحدّث عن بعض ما يدفعنا للعمل. فذكرنا الغَضَب، كيف يندفع الإنسان بقوّةٍ نحو وجهته.. لا يبغي من دونها حولًا. لا يرى من شغله غير ما غضب لأجله، فينجز بذلك الغضب في ساعتين ما لم ينجزه فيه أسبوعين. يبقى مشتعلًا كنار تأكل غابة، فيعضّ أوراقه ويشدّ أقلامه بين يديه. 

تفريغ الغَضب في العمل أمر جيّد، لأنه يُخلّص الإنسان من تبعاته التي تقود إلى الانتقام، ولأنه يحرّكه للعمل بسرعة. 

سأنشر النّص هكذا، دون العودةِ لما فيه، قبل أن يسقط الهاتف على وجهي...

أروى بنت عبدالله 
١١ رمضان ١٤٤٢هـ 
٢٤ ابريل ٢٠٢١م 
السّبْت ١١:٢٩م

الجمعة، 23 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٣) رسالة | إلى السُّعاة..


تتحوّل من كتابة الأفكار، إلى كتابة بعض المذكرات، ثمّ تجعلك قيمة الاستمرار تنتقل إلى كتابة اليوميات.. والغريب، أنّه لا يهُم ما تكتب، المهم ألّا تتوقف. هذه النظرة تقودنا إلى فكرةٍ منتشرة، تقولُ أن خوض الطّريق بمتعة أهم من لحظة الوصول. لكن، ماذا عن الوِجهة؟ ماذا لو كان الطّريق جحيمًا لا يُطاق؟ ولذّة الوصول التي ينتظرها السائر بصبره غاية أمله ومبلغ مناه؟ 

قد تتخبط في الطّريق وتتعب، يختلّ توازن الأشياء، بين أن تقدّم روحكِ أو عقلك أو جسدك، ستمرّ فيه بتقلّبات كبيرة وكثيرة، ستتهدم فيك أجزاء لم تتوقع أن تقوم بدونها، وسيبني الله فيكِ ما لم تتخيل امتلاكه. تسعى وتبذل كلّ ما تستطيع، لأن لك وجهةً تريدها، غاية تقودك لطريق آخر، تتابع به وفِيه سدّ ثغرك. 

يعرفُ الله أن ما يصلح لك لا يصلح لآخر، وما يصلح لغيرك لا يصلح لك، لذا جعل بين يديك الاختيار. اختر ما يقوّيك على العمل، ويشحذ همّتك. واحذر من الزهو والاعتداد بما عندك فتقعد إلا قليلًا، القعود يورث التعاسة والكآبة واليأس. 

لا تنظر إلى ما يفعله النّاس، ولا كيف يفعلونه، إلا بقدر ما يبصرّك بالصورة العامة لتجاربهم، لتبني تجربتك بوعي وبعد اطلاع. لا لتتبعهم، ولا لتدخل معهم جحورهم. ابحث عن محيط يخصّك، خُض فيه حتّى تطمئن إلى بقعةٍ صغيرة، ترسو فيها لترفع أعلامك الخاصّة المتفرّدة. 

هكذا أرى العَمل، وأخوض في الحياة بشيء من ذلك اليقين المشوب بالشكّ في بعض الأحيان. تصادفني دورات كثيرة، لكنني أعرف أي واحدة أريد وأحتاج أن أحضر. تصادفني فوائد وحسابات كثيرة، لكنني أعرف ما يدعم منها وجهتي فأتابعه. حتّى وصلت إلى مرحلةٍ لم أتوقعها، لا أمسك فيها الهاتف إلا وبين يدّي ورقة وقلم، أدون ما يمرّ عليّ من أفكار ومعلومات مهمّة، تخدم رؤيتي وتدعم رسالتي وتحثّني على البذل والعمل. 

هذه الأفعال البسيطة على قارعة الطّريق، التي لا تكترث بها ولا تظنّ بأثرها... استثمار عظيم لنفسك، يبني لك صورةً أصيلة نقيّة لها، تعرف بها حقيقتك، وتتضح في خضمها مبادئك. ستعرف بتلك الصُورة كيف تتحكم بنفسك وتُلزمها بما تريده أنت لا هي، ستعرف ما تكبح عنه وبه هوى نفسك. انتباهك وحده، سيصنع الشخصيّة التي ترى أنّك تريد أن تكونها، أو يجب أن تكونها لتحقق أهدافك، ولتستغل ما تملك من معارف وفُرص بطريقة صحيحة بعيدة عن العشوائية. 

توقّف الآن.. 

هدئ من روعك، ستطفو الأشياء على السّطح. دونَ أن تتكلّف أي جهد، ستتعجب، وسيبدو كلّ ما كان مخيفًا خيالًا غريبًا لم تعشه. ستنسى برحمةِ الله غرقك، وتعبك، وانهيارك آخر الليل من الإجهاد. ستعيشُ لذّة الوصول كأن لم تذق نصبًا. 

لن يساورك شكّ في عملك، ولا ندم على فوات ساعةِ نوم، ولا ضيق يضغط على صدرك. ستقف فجأة، لن تحاول النظر إلى الخلف، ولا الالتفات إلى أي شيء، ستقف فقط، فتتراءى لك صورة لمخلوق كان مشغولًا جدًا، لا يجد وقتًا لغير ما بين يديه من عمل.. لكنّه وبطريقةٍ ما، واقف، على منصّة ربما، يُتوّج، يُسلّم وسامًا، أو تاجًا من نُور. 

هل هذا أنتَ حقًا؟ كيف وصلت؟ لم أبلغ كلّ القمم، ولا القمّة العليّة التي أريد. لكن ماذا؟ كيف حلّقت إلى هُنا؟ 
هكذا فحسب، ستدرك أنكّ "قد تخيب مع الأسباب القويّة، وتمنح مع سبب ضعيف. كلّ ذلك لتعلم أن الأسباب لا تستقل وحدها بمنحك أو منعك، إنما هي إرادة الله وحده لا شريك له". 


أروى بنت عبدالله 
١٠ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٣ ابريل ٢٠٢١م 

الخميس، 22 أبريل 2021

تحدي الكتابة (٢٢) أحكام وأرزاق..

يجب ألّا يمتنع الإنسان عن مشاركة ما يُحبّ بسبب نفخِ النّاس لإنسان آخر يعمل في نفس المجال. تزعجني فكرةُ أن يوضع اسمك في منافسةٍ لست فيها فعليًا، تضعك ثم تصبّ عليك الأحكام صبًّا. لماذا يقول البعض ما لم يُطلب منهم وما لم يُسألوا عنه؟ 


يمكن أن يعمل عشرة في نفس المجال، ويكتب الله لجميعهم نجاحًا باهرًا يليق بعمل كلّ منهم. والهواية ليست محصورةً على فرد دون غيره. أمقت أن يعيش النّاس حياتهم بالمقارنات، ألا يشعروا بالرضا ويسخطوا حين تصيب غيرهم حسنة أو رزق، وأن يتلذذوا بالشماتة واستعراض أرزاقهم كأنهم كسبوها بقوّتهم. وأسوأ ما في ذلك العيش، ألا يهنأ الإنسان ولا يستقر شعوره تجاه الآخر. فتجده في حرب باردة غريبة غبية، تغذّيها أفكاره ويقتات منها لأذيّة الآخر. 


حتّى في المِعرفة، يجب ألّا يزهد الإنسان بما عنده، وألّا يتواضع تواضعًا يضرّه فيما استخلف فيه من علم. وأتذكّر هنا عبارة يرددها أستاذ القانون الأوغندي، الذي درّسني أهمّ مقرر قانوني في حياتي الأكاديمية، الحوكمة.. ذكر لنا مرةً فكرةَ أحلامِ المنام، كلنا ننام ونحلم، لكن لكل منا حلم لا يراه غيره، ولا يعرف تفاصيله غيره، ولا يمكن مطلقًا لأي مخلوق معرفته. هكذا الأفكار، لا يراها النّاس كما تراها، ولا يعرفون تفاصيلها في عقلك أو مخيلتك، ولا يمكن لهم مطلقًا معرفة أي شيء ما لم تقله. هذه الفكرةُ مريحة وعميقة، مهما تكررت بعض المشاريع، سيلقي الله في فؤادَ النّاس القَبولَ لأحدٍ دونَ آخر. يكتب لكل مشروع جمهوره المناسب، ولكل فكرة عملاءها المناسبين، ولكل قائد فريقه المناسب. 

المهم من كلّ ذلك، أن يؤمن كلّ فرد بأن الله أعطاه ما لم يعط أحدًا من العالمين. أن يستشعر تسخير الله لهذا الكون بما فيه له. أن يدرك قيمة الفكرة، والكلمة والمعلومة، وألا يحقرها ولا يحقر نفسه. كما يعرف الآخرون ما لا تعرفه وتراه نقيصةً في نفسك، أنتَ تعرف ما لا يعرفونه! منحك الله ما يناسبك ويميّزك وحدك، ما يعينك على المضي في السبيل الذي أراده لك أنت. 

أروى بنت عبدالله 
٨ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٢ ابريل ٢٠٢١م 

الأربعاء، 21 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢١) على ساحل فكرة..


أعتقد أن هذا التحدّي سيجعلني أكره الكتابة عوضًا عن تجاوز عائق النّشر. لا أريد إلقاء نصوص متتابعة بهذا الشكّل في محيط غير واضح السّواحل! 

بدأت هذا النّص بذلك الاعتقاد في السّاعة ١٢ ظهرًا، ثمّ تركته لأعود في المساء. بعد التخفف من ثلاثة أعمال مهمة وعاجلة، أدرك أن تلك الأفكار نتيجة الضّغط، الذي لم أستطع على إثره عدم التفكير بالتحدي حين كنت أستعدّ لاختبار. وتذكّرت اقتباسًا نشرته مرتين، يقول فيه روبن شارما "إن الذين لا ينظمون أوقاتهم يعيشون دائمًا تحت ضغط الضرورات التي صنعوها بأنفسهم من خلال الإهمال والتأجيل والتسويف."

ولم تكن فكرةً أجلد بها نفسي، بل أقوّمها بها. ولا أقع في ذلك الضّغط بسبب إهمال أو تأجيل أو تسويف، بل بسبب الثّقة العمياء. عليه فإنّها ظاهريًا، تصفعني! كلّ شيء منظم وكلّ الأوقات منضبطة، حسنًا، ما المشكلة عندي إذن؟ ربما في ترتيب الأولويات... أو ربما لا توجد مشكلة؟ 

عندما أحصي المشاريع التي عملت عليها هذا الفصل، أتعجّب من كَرم الله وأحمده على فضله. لعلّ ما جعلني أشعر بتلك الدّوامة، الختام المتكرر، وكنت قبله أتوجس من ختام المراحل، من نهاية الفصل، نهاية البكالوريس، نهاية الثانوية، نهاية الإعدادية، كلّها كانت تسبب شعورًا غريبًا تخبّطت على إثره مرّات كثيرة حتّى وصلت إلى هذه المرحلةِ التي تجعلني أنتظر الختام لأنطلق! 

من كان يعتقد أن الفتاة التي تكره الإجازات الطّويلة، وتغرق في الأعمال صيفًا حتّى تختفي، سترغب بإجازة؟ لستُ أنا بالطّبع، لم أتوقع الأمر. والمختلف هذه المرّة، أن الإجازة المرغوبة كانت من خطّة الجامعة، وهدفها متابعة خطتي في العمل. 

خلال أوقات متفرقة من هذا العام، أدركت معنًى مهمًّا جدًا، يدور حول فكرةِ أن تكون قائد المركبة لا مُساعده. اعتيادنا على استلام خطّة مسير لحياتنا، وانشغالنا بها انشغالًا تامًا، أرخى في كثير منّا، عزيمةَ وضع خطّته الخّاصة، ورسم خريطة حياته الشخصية. 

ولعلّ أقرب مثالٍ من محيطي للأمر، صدمة التّخرج التي تتعرض لها الفتيات. حسنًا ماذا بعد؟ جماعةٌ تنتظر، جماعةٌ مكتئبة، جماعة تحاول السيطرة على نفسها في خضم تلك التخبطات، وجماعة تحاول السيطرة على العالم.. 

نختم هنا بسؤالٍ مفضّل: 
ماذا سنفعل الليلة يا بينكي؟ 


أروى بنت عبدالله 
٨ رمضان ١٤٤٢هـ
٢١ ابريل ٢٠٢١م 

الثلاثاء، 20 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٠) أسمى اللذائذ..


أحمل كتاب المُنير، والدفتر، والقلم، والجهاز اللوحي، والمصحَف. أقصد بقعة خاليّة وأستعين بالله ثمّ أدخل رابط الحَلَقَةِ الفَجريّة. تبدأ المعلّمة بتلاوة طيّبة لآياتِ النّشور، ثم بالدّور، تبدأ من دخلت أولًا بمتابعةِ التلاوة التي بدأناها من سورة البقرة. واحدةً تلو الأخرى، تلاوة، تصحيح للتلاوة، وبعض الأسئلة النظرية.. 

تمرّ بعض الأيّام هادئةً جدًا، ننهي المقرر، نتدبر آية ونختم.. بدون أي حديث آخر. وتمرّ بعض الأيّام باتصالاتٍ كثيرة، لإيقاظ النائم وتنبيه المنشغل، يتصدرها اسم فتاةٍ طيّبة صبورة تُدعى عَبِير. وتمرّ بعض الأيّام ببهجة يتجلّى لُطف الله فيها، حين تكون واحدةٌ من الجَمع المُبارك في ضيق، فيكشف الله ما بها ويفرج همها بآية قرأتها أو فِكرة طرحت أثناء التّدبر. وما أجلّ هذه البدايات في أيّامنا، وَيَا لِطيب أثرها. 

أتفكّر منذ مدّة في رزق الله المتمثّل في المُعلّم السَمحِ المُتقن، وكيف ساقني الله مع بداية فصل جديد، كنت فيه أتأرجح بين حلقتين، وأقرأ بصوتٍ مهزوز، وأخاف من الأسئلة وأتلعثم في الإجابة حتّى عندما أكون متأكدةً منها... إلى حلقةِ معلّمةٍ واسِعَة  الصّدر، مُتقنة أعطاها الله أُذنًا قرآنيّة. تلحظ ميل الحرف وموضع عضو النّطق من أصواتنا، لم تعقها وسائل الاتصال الالكترونية عن شرح وتصحيح وضبط تلاواتنا. نَطيبُ بسماع تلاوتها، ونأنس بمجيء صوتها. بقيتْ حتّى آخر اللحظات قبل الاختبار، تراجع لنا القواعد وتضبط لنا التلاوة وتحضّنا على الجِدّ وسؤالِ الله الفتح. 

غدًا يومَ الاختبار النظري النهائي، رغم أنني لم أُنهِ المراجعةَ النهائية للمقرر بعد، إلا أنّ في داخلي شعورًا يمنّيني بأنّه يوم التتويج. وأسأل الله العليّ القدير أن يجعله كذلك، وأن يرزقني فيه إصابة الجواب وعلو الدرجات في الدنيا والآخرة. 

لهذا الحَديثُ بقيّة، فالقصّة انتصفت هُنا، ولها تتمّة بسعد الختام بحول الله وقوته وفضله وكرمه.. 

أروى بنت عبدالله 
٧ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٠ ابريل ٢٠٢١م 

*نص مبتور، حذفت معظم تفاصيله، حتى لا أنشغل بها أثناء الاختبارات، ولكي لا أبدأ بسرد قصّةٍ لم تكتمل بعد.. 

الاثنين، 19 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (١٩) فاصل إعلاني..


ليس عندي ما أكتبه اليوم، كلّ ما أريد فعله الاعتكاف على البحث والنّوم. أستلقي الآن كمن عاد من معركة، أو لنقل سباق جَري. أنهيت القائمة التي أعمل عليها منذ أسبوع، وسلّمتها. عرضت البحث الذي لم أنهه حتى الآن، وفي منتصف العَرض دخل أخي الصغير قائلًا "مرحبًا"، أجزم بأن كلّ من كان نائمًا أو متعبًا من الطّلاب حينها استيقظ، حتّى أنا.. همست له "اخرج اخرج"، لكنّه صرخ بأعلى صوت: "أعطتني ماما آيسكريم، آيسكريم السَنْدَويِكة". يا إلهي ماذا يحدث! مكبّر الصّوت مفتوح وعَرض الشرائح مفتوح صوتي وحده الذي انقطع، استغرق الأمر ٢٠ ثانية حتّى أتمكن من إغلاق كلّ شيء وأذهب إليه بعد أن أنهى ما جاء يقوله بالطّبع... "أرجوك اذهب أنا أكلّم الأستاذ"، "انظري إلى الآيسكريم أولًا". 

حسنًا، انقلبت موازين كلّ شيء في دماغي، ضحك الجميع وانتهى الأمر، لا بأس، سأعود لإتمام العَرض، فتحته مجددًا.. "عدتُ دكتور، أعتذر على الفاصل المنزلي".. -لم يستطع الأستاذ كتم باقي ضحكته- "لا بأس، الأطفال هكذا لا يمكن تقييدهم". 

تابعت عَرض نتائج البحث بنشاط كبير رغم حرارة الجو التي تسبب بها آيسكريم أخي، ورغم ذلك التّمام الذي يبدو أنّه كان مرضيًا.. بدأت دورة جلدٍ تتعقبني كلّ مرّة بعد كلّ عرض وتسليم، كنت أستطيع جعله أفضل وأجود! 

لا أريد الخوض في حديث لجلد الذّات عن ترتيب الأولويات، والعجلة، والتعامل مع الأمور بهدوء رغم البراكين التي تحدثها. لكن لا بأس، كلّ هذا يمكن أن يحدث. حتّى هذا النّص الذي أحاول إتمامه على عجلة من أمري، لإغلاق ملف اليوم والانتقال لما بعده. لا بأس في العجلة وفي فاصل إعلاني قبل بدء الثلث الأخير من هذا التّحدي.. 


أروى بنت عبدالله 
٦ رمضان ١٤٤٢هـ 
١٩ ابريل ٢٠٢١م 

الأحد، 18 أبريل 2021

تحدي الكتابة (١٨) سِرْ لا تَقِف..


كنت أتأمل قِطَع البسكويت الدائرية اليوم، أثناء إعداد طبق بارد للتحليةِ بعد صلاة التّراويح. شدّني تعاملي المرن مع القطع المتكسرة، وتذكّرت امتعاضي منها عندما كنت أصنع نفس الطّبق قبل سنين خالية. كُنت أجمعها في طبق آخر لأسدّ بها الفراغات، والآن.. أستمتع بصفّها كتحفةٍ فنيّة على سطح الطّبق لتُجَمّله. 

في تلك الأثناء تذكّرت نصّ اليوم، وتنبّهت إلى فكرةِ الهَدمِ والبِنَاء التي نمرّ بها في مختلف مناحي الحياة. عندما نمتعض من كُسورٍ نستطيع من خلالها اتخاذ أكثر الطّرق بناءً في حياتنا. عندما نظنّها فخاخ وشرفات خَطِرة، في حين أنّها ما يجدد فينا العَزم ويعلو بنظرتنا ورسالتنا وهِمَّتِنَا. ليست أساسًا في حياة النّاجحين الملهمين، لكن.. من الذي تخلو حياته من الهزائم؟ 

إنّ المرونةَ التي نتجَاوز بها تلك المنعطفات في الحياة، ورفضنا التّوقُفَ رغم غَورِ لحظاتٍ فارِقَة في أعماقنا، تُثَبِّت الإيمانَ في قلوبنا. كلّها مواضِعُ اختبار، يتتبع الإنسان فيها حقيقة بنائه الإيماني. هل هو مؤمن حقًّا؟ وفي رمضان فرصة لاكتشاف تلك الحقيقة، في هذه الأيّام خاصّةً، بغياب أجواء العبادة الجماعية العامة. 

"هل نمتلك بناءً إيمانيًّا يُذكر لنواجه به كنزَ رمضانَ الوفير ونغرَفَ منه ملء أيدينا أم لا؟".. هل تتواضع أمانينا وتخبو مطالبنا ونرضى بمستوًى عادِي؟ مع ضرورة الإشارةِ هنا إلى حديث رسول الله ﷺ "اسألوا الله الفردوس الأعلى من الجنّة". أترضى بمنزلةٍ أدنى من أجل غفوةٍ أو سهرةٍ أو محادثة مع غير الله؟ الله الذي فتح لك الأبواب كلّها ودعاكَ إليه، الذي يفرح بعودتك إليه وتوبتك وأوبتك! أترضى أن يقعدك همّ أو ضرّ ما أصابك إِلّا بإذنه ليقربك منه لكنك تبتعد؟ والله لا يرضى مؤمن على نفسه ذلك! 

سله من فضله وتذلل عند بابه، إيّاك ومواطِن المزاح الكثير والهَرج، والشّواغِل التي تمنّيك نفسك بأجر صنيعها لكنها تجرّك فتُبلِي ثوبَ إيمانك وتهلك روحك. 
"اركض بقلبِكَ
هذا الدّرب 
منفرِدٌ..
والسّبقُ فيه لِصَادِقِ الإيمانِ".
سلِ الله أن يجدد الإيمان في قلبك، أن يطهّره ليرى فلا تضل أو تضل ولا تَهلك ولا تُهلك. سِر لا تَقف، وتذكّر حديث رسول الله ﷺ "من خافَ أدلج ومن أدلج بلغَ المنزِل، ألا إن سِلعَةَ الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنّة". صدق رسول الله ﷺ. 

أروى بنت عبدالله 
٥ رمضان ١٤٤٢هـ
١٨ ابريل ٢٠٢١م 

السبت، 17 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (١٧) شُرفة خَطِرة..


ينتهي اليوم تحدّي الثلاثين، الذي بدأنا أنا وميعاد على إثره وعلى إثر تحدّي التأمل، هذا التحدّي الخاص بِنَا. أشعر حولي بحركةٍ تسبب تزعزعًا غريبًا فيّ، أريد بسببها الاستسلام والانسحاب، لكنني أقاوم كلّ ذلك، على أمل الوصول إلى شيء لا أعرفه. 

هذه الرّحلة وهذا التحدّي ممتع، وقد حققّ بالنسبة لي -حتّى الآن- القيمة التي وضعتها نصب عيني حين وافقت ميعاد على بدئه. قيمة الالتزام بالوقت المحدد، وقيمة الاستمرارية كلّ يوم. لكنني في شكّ، مما إذا كانت القيمة التي قصدت بها الكتابة قد بدأ يلوح تحققها في الأفق.. حتّى أنني ومن ذلك الشّك، لا أدري هل الرقم ١٦ في عنوان التدوينة صحيح أم لا. 

هل تعبت؟ لا لم أتعب. هل سأكتفي بهذا؟ لا لن أفعل. 
أظنني أحتاج إلى ممارسةِ هذا لمدّة ثلاثين يومًا أخرى، أو.. ربّما ستين؟ لكنني لن أفعل. سينتهي التّحدي وقد تبدأ عجلةُ التأجيل في الدوران مجددًا، حتّى يفوت أوان نشر النصوص المكتوبة كالمعتاد. لا أعرف ما إذا كانت فكرة فوات نشر تدوينة أمرًا صحيحًا، هل يفوت أوان الكلمة أم الفكرة أم النّشر فقط؟ لعلّه عامل الوقت... وهو كذلك فعلًا. 

هل من الصّواب أن ينقطع صوتٌ حين يعلو آخر؟ لا أظن. ماذا لو كان صوابًا، لأنّ المسرح أُغلق، ومكبّر الصوت تعطّل، ولا جمهور سوى بعض الكراسي وبضعةِ عمالٍ يهرولون في المكان لتنظيمه قبل أن تأتي حافلتهم ليغادروا بدورهم أيضًا؟ ماذا لو لم تكن قادرًا على تلمُّسِ رجع صدًى؟ ولا حتّى صدى صوتك... يا للخيبة.

هذه شُرفة خَطِرة، الرّجوع إلى الخلف فيها مستحيل، والمُضيّ قُدمًا نحو المطلِّ صَعب. الرؤيةُ غير واضحة، الخطوات ثقيلة، ما زال في الزّاد بقيّة، لكن من يدري إلى أين سيصل حامله به.. 

أروى بنت عبدالله 
٤ رمضان ١٤٤٢هـ
١٧ ابريل ٢٠٢١م 
السّبت ١١:٠٣م

الجمعة، 16 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (١٦) لحظةُ المواجهة..


هذه لحظةٌ أرى فيها طيفَ خسارةِ نُقطَةٍ أُخرى. بدأتُ بالكتابة عن مرمرة، فقاطعني أحد إخوتي الصّغار بسؤال.. 
- "أروى ماذا تكتبين؟" 
- أكتُب نصّا لتحدّي الثلاثين 
- "كيف؟ ما هذا؟" 
- إنّه تحدٍ بيني وبين صديقتي، أن نكتب في كلّ يوم نصًا، لمدة ثلاثين يومًا..
- "من؟" 
- ميعاد 
- وماذا تكتبن؟ 
- عن أي شيء المهم أن نكتب كل يوم
- ما هذه الفكرة! 

نعم صحيح! ما هذه الفِكرةُ التي تسألني عنها يا أخي! لمحتُ لؤلؤ عين متعطشة للمعرفة، فضولية، وتسترق النّظر، لا أعرف ما إذا كان سبب سؤاله أنّه انتبه لاسم مرمرة بين السّطور.. من يدري. 

لكنه أوقد في ذهني فكرةً لمسابقةٍ إبداعية في الكتابة، أظنني سأعمل عليها بعد أسبوعين إلا إذا أنهيت أبحاث الفصل قبلًا، أو ربما أقتنص لهما فرصةً الأسبوع القادم. وربما بعد شهر، من يدري...

أُحبّ أن يكون الإنسان قادرًا على فهم نفسه وشرحها وإدراك مختلف ما يجول في حياته من خلال الكلمات، الكتابة فِعلُ مواجهة لا يجرؤ عليه أي أحد. 

وأتذكّر هنا محاولةَ هربٍ افتعلتها قبل سنتين، حين تخبّطت في تجربة فنون أخرى كالرّسم، أمارسه منذ زمن، لكن التجربة كانت في جعله بديلًا عن الكتابةِ في التّعبير، وكنت فعليًا أمتنع عن الكتابة عمدًا وتحت ضغط كبير. لم أُفلح بالطّبع، وعلى إثر تلك المحاولة، تعرّضت لانتكاسة غريبة جعلتني أخاف فكرةَ مُشاركة ما أكتب، كنت أخبئه كمن يدسّ كنزًا معرضًا للسّرقة.

أدركت بعدها أن الكتابة مختلفة عن باقي الفنون والعلوم. يمكن تفريغ الطّاقات في غيرها، لكن.. وحدها كانت فِعْلَ مواجهة حقيقي. ومن لا يستطيع ولا يقوى على مواجهةِ نفسه، ولا يكتب ليفهم نفسه، ولم يجرّب الكتابة في سبيل معرفة هذه النّفس.. بعيد بعض الشيء، وربما بعيد بخطوات كثيرة عن فكرةِ الاستثمار النّوعي الذي يرقى به وبحياته، وبعيد عن الجديّة في التعامل مع ذاته وما يُدخلها فيه من مواقف وظروف ومراكز في الحياة. 

من كلّ ذلك، أرى أن أثر معلّم الكتابة عظيم، وفي التشجيع عليها ودعمها إحسانٌ لأرواح البشر. يجعلني هذا أتساءل، إلى أين يمضي هذا التّحدي؟ هل سيخرج بأثرٍ ما؟ كيف سأكون بعده يا ترى؟ وما سيكون بعده! ياربّ.. 

أروى بنت عبدالله 
٣ رمضان ١٤٤٢هـ
١٦ أبريل ٢٠٢١م 
الجمعة ١١:٢٣م.  

*مرمرة، اسم فَرَس نحبّها وتحبّنا، كنتُ أكتب عنها بدافع الشّوق، لكن الحديث عنها قد يطول، ولن يسعفني الوقت.

الخميس، 15 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (١٥) هاجِسُ الخِتَام..


يمكن لأي فرد منّا وضع خطّة محكمة ليتبعها في شهر رمضان، يبدأ بها من اليوم الأوّل حتى اليوم الأخير. يقرأ فيها ختمة أو أكثر، يجِدُّ في العمل مُخلصًا، يرطّب لسانه بالذّكر الكثير، ويشغل وقته بمتابعة المفيد من البرامج حين يتعب ولا يقوى على شيء آخر. يحتسب أجر عمله على تفطير صائم، ومواساة محزون، وعيادة مريض أو السُّؤال عنه. 

وفي حياةِ كلّ شخص ما يحبّ أن يتقرّب به إلى ربّه من عمل، ما يقومُ بهِ لله ولا يقعد حتّى يصل، يحمل همّه ويمضي فيه صادق الإيمان مُخبتا. وفي خضم كلّ ذلك، يراود الإنسان فرح بعمله، فيردعه عن ذلك الفرح هاجس خوف، يلهج على إثره بالدعاء "اللهم إني أعوذ بك أن أكون من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"، اللهم إني أعوذ بك أن أكون من الذين يصرفون أوقاتهم في أعمالٍ لا تقرّبهم إليك، بل وتبعدهم.. 

يتراءى بعد كلّ ذلك، الهمّ الذي يجب ألّا ينساه العامل إلى جانب همّ إتمام ما ينوي، همّ القَبول. والهمّ هنا ما يشغل بالَ الإنسانِ ويؤرِّقُ فكره، فيختم أعماله بقولٍ يخرج من عمق قلبه فيملأ فاه "ربّنا تقبل منّا، ربّنا تقبّل منّا، ربّنا تقبّل منّا". فلا يرى بعد ذلك من قرابين غيره شيئًا، ويسعى صادقًا مخلصًا لينالَ ذلكَ القَبول، ونبضه يأمل أن يكون من المتّقين ‏﴿إِنَّما يتقبَّلُ اللهُ مِن المُتَّقِين﴾. 

تذكّرت مقطعًا من نشيد حفظته صغيرةً حينَ كان نغمة رنين هاتِفِ عمّي مُحمّد، يقول مطلعه: "أحزان قلبي لا تزول، حتى أبشّر بالقَبول. وأرى كتابي باليمين، وتقرّ عيني بالرّسول". كنت أتأمّل الكلمات طفلةً وأقولُ ياربّ متى تزول أحزان عمّي، ظنًّا مني أنّها آثار الابتلاءات التي اختاره الله لها في هذه الحياة. مضى الزّمن، ولم تغب الكلمات عن ذهني أبدًا، وبقيت مع صورةٍ لعمّي وهو جالس في مقدمةِ حافلةٍ عائدة من مكّة إلى عُمان، تعرّضت لحادث سير. سلّم الله عمّي وحفظه، وحفظ له تلك الصّورة في قلبي. حتّى أكبر وأدرك، أن الأحزان التي لا تزول، كان سببها همّ القَبول، همّ استلام الكتاب الأخير باليمين، وهمّ اللقاء المرتقب بالحبيب ﷺ. ويا لضياع العُمر دون تحقق ذلك اليُمن والسّعد في الختام. 


أروى بنت عبدالله 
٢ رمضان ١٤٤٢هـ
١٥ ابريل ٢٠٢١م 
 


الأربعاء، 14 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (١٤) جِسْر من الأفكار..


عن الوقتِ الذي يتسلل فيه شعور الليلةِ الأولى والصّباح الأوّل. عن وخزةِ الجُوع الأولى، وما تحدثه من فراغ غريب. يوم يتخلله استشعارٌ لهدوء الأَرض، واختلافِ النسمةِ والسكنة. تتبدّى فيه البركاتُ تباعًا زمانًا ومكانًا، ويتنزّل فيه من الخير انشراحُ الصّدور وتوّسع البصيرة. تخطو فيه الأرواح مشتاقة توّاقة، يستشعر به القلب وجوده ونبضه الذي تخفف بالخلو من كل أمر فلا يثقله عن المسير إلى الله شيء. 

 ما أعظم شعور أن تقرأ وردك من القرآن مستحضرًا عظيم الثواب ومدركًا أنّ المجاهدة ثمنُ الأعمال والأجور المضاعفة، فتبدأ ختمة جديدة، وتتابع مراجعتك للمحفوظ. 

...

وبالرغم من كلّ تلك المشاعر الاستثنائية، لم يتوقف الرّكض في مناكب الحياة ولم تهدأ وتيرته ولو قليلًا. غدًا تسليم البحث، الإثنين عرضه، الثلاثاء تسليم بحث آخر والأربعاء عرضه. عكفت على إنهاء الأعمال في المكتب الشّهر الماضي، وهجرت تلك الأبحاث إلا قليلًا، عليه فإن النتيجة الحتمية للأمر أن أعتكف عليها ويدور فلكي حولها فقط، حتّى أتمه في الموعد. لكن هذا الأمر بات مستحيلًا الآن.. 

وتذكرت هنا قولًا قرأته لروبن شارما قال فيه: "إنّ كلّ ما يُضاف إلى الذّات هو عبء مثلما هو مفخرة". ويجعلني هذا أتأمل في فكرة طرحتها في وقت سابق مع الصّديقة الزهراء، عندما تحدثنا عن خياري العمل والدراسات العليا. 

حدّثتها عن المرحلة التي يصل فيها المرء إلى نقطةٍ يشعر فيها أنّه ممتلئ، نهل الكثير، وأخذ أكثر مما أعطى. فيقصد طريق البحث عن عمل، ليفرّغ جزءًا مما تكدّس في داخله، ويقدّم للآخرين شيئًا مما أخذ، أن يعطي ويبذل ويقف مسؤولًا عن أعماله وعملاءه ويطوّر خدماته. 

وعن المرحلةِ التي يرى فيها المرء نفسه متعطّشًا للمعرفة، لا يريد أن تتراجع همّته في الطّلب، ولا يريد أن يتواضع ويرضى بالمستوى العادي الذي وصل له في مراتب العلم. فيتّجه ليغذّي عقله ويتابع بناء أفكاره، يجالس معلّمين جددًا خاضوا في المجال من التجارب ما يضيف إليه وإلى رحلته مغانم كثيرة. 

ولأنّ في الطّريقين ما لا يتغذّى إلا بالمرور على جِسرٍ من التّعب، على المرء في كليهما أن يحتسب أجره ويجدد نيّته؛ ليجد بعدها قوّة فكريّة وعلميّة وعمليّة يحسّ بها كما يحس بقوّة لحمه ودمه من جسمه. 

وأذكر هنا قولًا للرافعي، حيث وصف شيئًا من اللذّة بقوله: "ساعة الرّاحةِ بعد أيّام من التّعب، هي في لذّتها كأيّامٍ من الرّاحةِ بعد تعب ساعة". ولطالما منّيت نفسي بساعةِ الرّاحةِ تلك، فقلت لا بأس بتعب البدايات، بشهرين من الشدّة وآخران تصحبهما متعة إنجاز ما تم قبلهما وبعدهما يأتي رخاء الاستقرار في العمل. 

وقفت فجأةً كمن صُدِمَ بجدارِ فكرةٍ يؤمن بها، ألم نقل أن جمال الرحلةِ ومتعتها في الطّريق لا الوصول فحسب؟ عمدت بعد تذكّر هذا إلى قاعدةٍ سِرتُ بها الشهرين الماضيين، وهي: لا عمل ولا دراسة يومي نهاية الأسبوع، لا الجمعة ولا السّبْت. كنت فيهما أقضي كُلّ الوقت، كُلّه، في القراءة. أعيش مع الكتاب حياةَ من ليس له شغل غيره، أعود بعدها يوم الأحد وأنا مستعدة تمام الاستعداد لبذل كلّ الوقت بل وزيادة لإتمام الأعمال وحضور المحاضرات بذهن متفاعل فاعل. 

أتأمل الفكرة اليوم وأفكر، رمضان هو هديّة الطّريق الذي نسير فيه عمرنا كلّه، هو نهاية أيّام الأسبوع تلك لكنّ العداد أكبر وأوسع وأشمل فيه. ما الأمور التي تماثل العمل أو الدراسة في الصّورة الأكبر لحياتنا؟ ممَ نتخفف بعد أحد عشر شهرًا من السّعي الحثيث؟ ولمَ كنّا نسعى وننصب كلّ ذلك الوقت؟ إن في الخِفّة والبركة التي ميّز الله بها هذا الشّهر، تيسيرًا للمعسرات، وهو ما تمنحنا إيّاه بشكل بسيط الأيّام التي نقتنصها أسبوعيًا. ومن هنا أعود لما قلته في البداية، عن الشعور العظيم الذي تمضي به إلى الله مدركًا أنّ المجاهدة في هذا الفصل الخاص من حياتك، ثمن الإعانة على أعمالٍ مضاعفة الأجور، لا يعينك ويقوّيك على كلّها إِلّا الله وحده. لتبلغ بذلك كلّه قول المنعّمِين القائلين ﴿الحَمدُ لِلَّهِ الَّذي صَدَقَنا وَعدَهُ وَأَورَثَنَا الأَرضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيثُ نَشاءُ﴾..  

أروى بنت عبدالله 
١ رمضان ١٤٤٢هـ
١٤ ابريل ٢٠٢١م 



الثلاثاء، 13 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (١٣) مُستَرَاح..


هنيئًا لنا جميعًا هذا المُستراح، هنيئًا لنا بلوغ خَير الليالي، أطرافُ نورٍ تتراءى للقلوب، تضيء لها الدّروب لتشحذها بالجدّ إلى العلياء. "عجبًا من طامع في الجنّة، فتِحَ البابُ ولمَّا يدخُل". قدّم يمناكَ وادخل، ادخل بألحان السّعد في روحك، وجذوة السّعي إلى الفردوس،  ادخل موسم العفو، مستشعرًا أنّه فرصة العمر، شهر يعتني فيه المرء بروحه. ثلاثون يومًا لاستثمارٍ عظيم يقدّمه كلّ فرد لنفسه، زمان العمل الذي يرفعك في الدنيا والآخرة. 

مضى عامٌ كامل، بقيت في أثناءه أستذكر رمضان الفائت، أحمد الله عليه ليلَ نهار، أتنفس عميقًا بتلك الذكّرى وبالعَمل.. كانت أيامًا مباركةً جدًا، بفضلِ الله الذي وفّقنا لنظام اتبعناه جميعًا في المنزل، والتزمنا به معًا. كانت أبرز اختلافاته الرَوَاح الذي يصحب صلاة التّراويح وركعات القيام لنَا جمعًا وفرادى، حين تحوّلت المكتبة إلى مصلًى نتعاهد على وجودنا فيه. مقرّ صلوات الجماعة التي ما وقفت منذ أغلقت المساجد حتّى اللحظة، وحلقات التلاوة الجماعية، عن سجدات التلاوة فيه ولذّة شعور الختمة العائلية في العشر الأواخر. أتحدّث عمَ؟  عن السّهر الطّويل الموصول بالنهار إلا قليلًا، بين أوراق الكليّة وبحث التخرّج، عن الليلةِ التي قضيتها أسجّل عرض البحث النهائي. عن البرنامج الوحيد الذي تابعته وعشت معه تفاصيل ومشاعر عظيمة جدًا، "قدوة"، للشيخ فهد الكندري، عن رسول الله الحبيب ﷺ. 

وهاهي ليالٍ جديدة، نسأل الله أن يكرمنا بها ويعيننا على قيامها، فضل عظيم أعاده علينا وبلّغنا غرته ونسأله أن يبلّغنا تمامه، ويجعلنا من الذين يقتربون من الفردوس زُلفى وينالون العتق من النار. عن العهود التي قطعنها إلى أين صارت وماذا تحقق منها، عن الدّروب التي عزمنا السّير فيها هل أكملناها أم توقّفنا؟ أشعر هذه المرّة بميلادٍ جديد لكلّ اللحظات المباركة، لكلّ التغيرات التي حصلت، وأتساءل في داخلي عن كرم الله وعظيم فضله مجددًا، لقد منّ علينا برمضان آخر، بأيّام استثنائية أخرى كلّ مع أسرته وفي منزله. أيامٌ يُعاد فيها ضبط البوصلة في المنازل. تغرس في أرض السّائرين إلى الله بذورًا جديدة، تظلل طريقهم. 


أروى بنت عبدالله 
٢٩ شعبان ١٤٤٢هـ
١٣ ابريل ٢٠٢١م

الاثنين، 12 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (١٢) عن رجُل أحبّه..

 


مرّت عليّ الصّورة وأنا أتصفح تويتر ديسمبر الفائت، مرفقة مع بيت شعرٍ قال كاتبه:
"له مجلسٍ من ثقلت همومه نصاه
‏   دكو خطاطيره هدب … زوليّته".

عَلِقتْ، لم أستطع تجاوزه حتّى هذه اللحظة، شعرت بانفجارٍ في داخلي، عندما أرسلت لَيْلى ابنةُ خالتي صورةً لجَدّي رحمه الله. لأنه سبب وقوفي الطّويل على ذلك البيتِ وتلك الصورة. 


رجلٌ هادئ، يعملُ بتفانٍ في مزرعته، يقصده النّاس لبثّ همومهم، ولحلّ مشاكلهم. رجلُ سَمح سليم الصّدر، لا يعرف قلبه أيّ معنًى للبغضاء أو الحقد رغم أنّه لم يسلم من النّاس.

 كان مُحسنًا، يسير في الدّرب فيخضرّ موضع قدمه فيها. قويّ البنيّة، يغرِسُ بيديه ويمرّ على زرعه شبرًا شبرًا يحصده. كريمُ اليدين سخيّ في عطائه، لا يأكل من ثمر جنّته إلا وزّع منه على أهله وجيرانه وأصحابه. 

صالحٌ مُصلح، حَفِظَ الله له قلبه وجوارحه عن النّاس، فحفظها حِفظَ مؤمن أمين صادق مع ربّه الذي أكرمه. رجلٌ أرادَ الآخرةَ وسعى لها مؤمنًا. لبيبٌ رزقه الله الحكمة، ففاض بخيرها الكثير على من حوله. بسيط بسط الله له الخير، وأنار له دروبه بالهدى والتقوى. 

قد يبدو قولي للأقربين ضربًا من زيف شعور، أنا التي خُلقت بعد بضع حجج من وفاته. لكن له في قلبي صورةً كطودِ الجبل الرّاسخ، ثَبَت على مبادئه فثبّت الله قلبه بالإيمان. لا يثيره من الأذى على نفسه شيء، لكنّه في الحقّ ولحدود الله يقوم شديدًا أحمر الوجنتين غاضبًا. 

اغترَبَ للعَمل، عاشَ بعيدًا عن دِياره وأحبابه، وفي كلّ رجوع له تكون عودته عودةَ من لم يغب أبدًا، يلقى الجميع طلق المحيا صفي الوداد. ساكن هادئ مطمئن في سكنه، لا يخرج إِلّا قليلًا، بين منزله في دارس ومزرعته في سعال ومنزله هناك مقابل جامع الإمام الصّلت بن مالك -رحمهم الله أجمعين-. 



من أينَ لكِ هذا يا أروى؟ 
من أُمِّي، أُمي التي تروي لي حكاياه، وتخبرني عن مواقفه، وتريني أثر محبّة النّاس له. حتّى سألتها مرّة عن جدّة في حارةِ سعال، لماذا تحبني هذه الجدّة كثيرًا وتُحبّك يا أُمي؟ فقالت لي: الأثر الطّيب لأبي رحمه الله. 
تشاجرت مرّة مع فتاةٍ في الحيّ في سعال، لم أتجاوز العاشرة من العمر حينها، ولم يقف أحد في صفّي، فهرعت راكضةً إلى بيت تلك الجدّة، كنت غاضبةً جدًا وأبكي، فتحت الباب على النساء في مجلسها وصرخت بما حصل، تعجّب الجميع من الحدث الذي أغضبني "الفتاة تغني بكلمات ماجنة والجميع يضحك عندما أطلب منها التوقف". بينما كان الجميع مشدوهًا، قفزت من مكانها وأخذتني إليها، محاولة إخماد النّار المشتعلة التي رأتها. والله، لا أنساها لها، لا أنسى غضبها على من أغضبني، ولا أنسى وقوفها بجانبي. وعند ذكر الموقف الآن، تذكّرت موقف الصحابي الجليل طلحة ابن عبيدالله عندما قام مهرولًا إلى كعب بن مالك -رضي الله عنهم- مصافحًا ومهنئًا، عندما دخل المسجد بعد نزول آيات التوبة، فقال كعب -رضي الله عنه-"لا أنساها لطلحة". 

وقد أثارت صورةُ جدّي اليوم في نفسي معانيَ كثيرة جدًا، ولا أنكر أن أحد محفزات هذا البكاء الذي أصابني وجعلني أواجه ذاكرة الحكايا وحبّي له بانسكاب الكلمات، هو الشّبه الذي رأيته في وجهه، شَبَه أُمِّي له، وملامح إخوتي فيه. وما أكرم الله الكريم الذي أكرم جدّي ببنتٍ مثل أُمي، ورزقني من بين كلّ نساء هذا الكون أن تكون ابنةُ هذا الرّجل طيّب الذّكر وبالِغِ الأثر هي أُمِّي أنا. أُمِّي التي أجزم أنّها ودون أن تدرك، أخذت من جدّي جلّ صفاته، بدءًا من سلامةِ صدره التي سلّمت له قلوب النّاس، وحكمته التي جعلت النّاس تقصده وترتاح في مجلسه وتمرّ على بابه، وقوّته وثباته على الحقّ مهما تغيّرت ظروف الزمان والمكان. 

أُمِّي التي رافقت أبي وصحبته في الحلّ والترحال، أمينةً على مشروعهما الأكبر في هذه الحياة. تعلّمت القرآن وعلومه، وعكفت على تعليمها أبناءها واحدًا واحدًا، فترى بينهم الحافظ المتقن والمرتل المجوّد، يتردد عليها كبيرهم لتقوّم مخارجه وصغيرهم لتثبّت له حفظه. أمي التي آمنت بأن القرآن سيعلمنا كلّ شيء، فعملت على تعليمنا إيّاه. وما أعظم الدّرب الذي تسير عليه، وما أكثر خيره، وما أكبر أجره. بمثل هذه المرأة الصّالحة، تقوم الأمم الصالحة، وعلى يديها يُصنع الرّجال العِظَام. 

... 

أروى بنت عبدالله 
٢٩ شعبان ١٤٤٢هـ
١٢ ابريل ٢٠٢١م