مرّت عليّ الصّورة وأنا أتصفح تويتر ديسمبر الفائت، مرفقة مع بيت شعرٍ قال كاتبه:
"له مجلسٍ من ثقلت همومه نصاه
دكو خطاطيره هدب … زوليّته".
عَلِقتْ، لم أستطع تجاوزه حتّى هذه اللحظة، شعرت بانفجارٍ في داخلي، عندما أرسلت لَيْلى ابنةُ خالتي صورةً لجَدّي رحمه الله. لأنه سبب وقوفي الطّويل على ذلك البيتِ وتلك الصورة.
رجلٌ هادئ، يعملُ بتفانٍ في مزرعته، يقصده النّاس لبثّ همومهم، ولحلّ مشاكلهم. رجلُ سَمح سليم الصّدر، لا يعرف قلبه أيّ معنًى للبغضاء أو الحقد رغم أنّه لم يسلم من النّاس.
كان مُحسنًا، يسير في الدّرب فيخضرّ موضع قدمه فيها. قويّ البنيّة، يغرِسُ بيديه ويمرّ على زرعه شبرًا شبرًا يحصده. كريمُ اليدين سخيّ في عطائه، لا يأكل من ثمر جنّته إلا وزّع منه على أهله وجيرانه وأصحابه.
صالحٌ مُصلح، حَفِظَ الله له قلبه وجوارحه عن النّاس، فحفظها حِفظَ مؤمن أمين صادق مع ربّه الذي أكرمه. رجلٌ أرادَ الآخرةَ وسعى لها مؤمنًا. لبيبٌ رزقه الله الحكمة، ففاض بخيرها الكثير على من حوله. بسيط بسط الله له الخير، وأنار له دروبه بالهدى والتقوى.
قد يبدو قولي للأقربين ضربًا من زيف شعور، أنا التي خُلقت بعد بضع حجج من وفاته. لكن له في قلبي صورةً كطودِ الجبل الرّاسخ، ثَبَت على مبادئه فثبّت الله قلبه بالإيمان. لا يثيره من الأذى على نفسه شيء، لكنّه في الحقّ ولحدود الله يقوم شديدًا أحمر الوجنتين غاضبًا.
اغترَبَ للعَمل، عاشَ بعيدًا عن دِياره وأحبابه، وفي كلّ رجوع له تكون عودته عودةَ من لم يغب أبدًا، يلقى الجميع طلق المحيا صفي الوداد. ساكن هادئ مطمئن في سكنه، لا يخرج إِلّا قليلًا، بين منزله في دارس ومزرعته في سعال ومنزله هناك مقابل جامع الإمام الصّلت بن مالك -رحمهم الله أجمعين-.
من أينَ لكِ هذا يا أروى؟
من أُمِّي، أُمي التي تروي لي حكاياه، وتخبرني عن مواقفه، وتريني أثر محبّة النّاس له. حتّى سألتها مرّة عن جدّة في حارةِ سعال، لماذا تحبني هذه الجدّة كثيرًا وتُحبّك يا أُمي؟ فقالت لي: الأثر الطّيب لأبي رحمه الله.
تشاجرت مرّة مع فتاةٍ في الحيّ في سعال، لم أتجاوز العاشرة من العمر حينها، ولم يقف أحد في صفّي، فهرعت راكضةً إلى بيت تلك الجدّة، كنت غاضبةً جدًا وأبكي، فتحت الباب على النساء في مجلسها وصرخت بما حصل، تعجّب الجميع من الحدث الذي أغضبني "الفتاة تغني بكلمات ماجنة والجميع يضحك عندما أطلب منها التوقف". بينما كان الجميع مشدوهًا، قفزت من مكانها وأخذتني إليها، محاولة إخماد النّار المشتعلة التي رأتها. والله، لا أنساها لها، لا أنسى غضبها على من أغضبني، ولا أنسى وقوفها بجانبي. وعند ذكر الموقف الآن، تذكّرت موقف الصحابي الجليل طلحة ابن عبيدالله عندما قام مهرولًا إلى كعب بن مالك -رضي الله عنهم- مصافحًا ومهنئًا، عندما دخل المسجد بعد نزول آيات التوبة، فقال كعب -رضي الله عنه-"لا أنساها لطلحة".
وقد أثارت صورةُ جدّي اليوم في نفسي معانيَ كثيرة جدًا، ولا أنكر أن أحد محفزات هذا البكاء الذي أصابني وجعلني أواجه ذاكرة الحكايا وحبّي له بانسكاب الكلمات، هو الشّبه الذي رأيته في وجهه، شَبَه أُمِّي له، وملامح إخوتي فيه. وما أكرم الله الكريم الذي أكرم جدّي ببنتٍ مثل أُمي، ورزقني من بين كلّ نساء هذا الكون أن تكون ابنةُ هذا الرّجل طيّب الذّكر وبالِغِ الأثر هي أُمِّي أنا. أُمِّي التي أجزم أنّها ودون أن تدرك، أخذت من جدّي جلّ صفاته، بدءًا من سلامةِ صدره التي سلّمت له قلوب النّاس، وحكمته التي جعلت النّاس تقصده وترتاح في مجلسه وتمرّ على بابه، وقوّته وثباته على الحقّ مهما تغيّرت ظروف الزمان والمكان.
أُمِّي التي رافقت أبي وصحبته في الحلّ والترحال، أمينةً على مشروعهما الأكبر في هذه الحياة. تعلّمت القرآن وعلومه، وعكفت على تعليمها أبناءها واحدًا واحدًا، فترى بينهم الحافظ المتقن والمرتل المجوّد، يتردد عليها كبيرهم لتقوّم مخارجه وصغيرهم لتثبّت له حفظه. أمي التي آمنت بأن القرآن سيعلمنا كلّ شيء، فعملت على تعليمنا إيّاه. وما أعظم الدّرب الذي تسير عليه، وما أكثر خيره، وما أكبر أجره. بمثل هذه المرأة الصّالحة، تقوم الأمم الصالحة، وعلى يديها يُصنع الرّجال العِظَام.
...
أروى بنت عبدالله
٢٩ شعبان ١٤٤٢هـ
١٢ ابريل ٢٠٢١م