الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

أصوات (٣) بَرَكَات ممتدّة..


قصدت مكتبة منزلنا باحثةً بين كتبي التي خبأتها هناك عن أوراق الأوريجامي الصغيرة الخاصّةَ بصناعة النّجوم. لمحت بينها دفترًا أبيضَ اللون، أعرفه جيدًا، فيه صورة بتلات ورد جوري أحمر وبضع كلمات بالإنجليزية.. الدفاتر في حياتي آلات لا يستطيع أبرع المخترعين الإتيان بمثلها، إنّها وسيلة للعودةِ بالزّمن.. ينتقل معها الجسد لا الرّوح فقط! 

يعود تاريخ ذلك الدفتر حسب المكتوب إلى أواخر شهر ذي الحجة من سنة ١٤٢٨ من الهجرة النّبوية الشريفة، أي مطلع يناير ٢٠٠٨م. كان يمثّل لي دفتر الوصول القوّي نحو الاتصال الحقيقي بعلوم القرآن، دفتر الوصول الذي سبقه عامان من النزوح، من الهجرة في سبيل الله، من الغربةِ التي كانت رغم شدّتها لطيفة برحمةِ الله وكرمه لأنّه معنا ولأنّه أكرمنا بالقرآن صاحبًا قبلها وأثنائها وبعدها. أتأمّل أبيات الشّافعي التي كتبتها على طبقة الدفتر "أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ..."، والفراشة التي رسمتها بعد كتابة اسمي بالقلم الأخضر اللّامع.. والنصيحة التي كتبتها أمي بخطّها "الثقةُ بالله أزكى أمل، والتوكّل عليه أوفى عمل".. يا إلهي كم كبرت تلك الطفلة وكم عامًا مرّ منذ ذلك الحين! 

تذكّرت في الأثناء جملةً أسمعها من هاجر كثيرًا، تقول "السّير في دربِ الوصول وصول"، لزمتني خمسة عشر عامًا لأدرك أن كلّ ذلك السّير كان وصولًا! أقلّب صفحات الدفتر وأتذكّر المعلمات اللاتي قصدت حلقاتهن في تلك الحقبة الزمنيّة، أتذكر المعلمة التي طلبت منّا كتابة تفسير جزءٍ من آية في سورةِ الجمعة "كمثَلِ الحمارِ يحمِلُ أسفارا"، وأقفّ عند ما خطّته يداي بدهشةِ الذي كان قد رأى الحقيقة وعاش بها منذ زمن بعيد... 

أعود من هناك سريعًا، مستذكرةً اللحظة التي كنت أنتظر فيها عبير بعد صلاة ظهر يوم الخميس.. لنتوجه إلى كلية الآداب حيث الحفل الختامي لنادي إتقان التلاوة. كنت أقلّب هاتفي بحثًا عن مقطع صوتي، فإذا بي أصطدم بتسجيلٍ لي كنت أنشد فيه أبياتًا كتبتها عن جمعيات التحفيظ! أتذكّر أنني كتبتها بحزنِ المشتاق إلى نعيم الحلقات اليومية التي كنّا نتنقّل فيها أيام ابتعاث أبي إلى الأردن، حلقة صباحية من السادسة والنصف مع ماما خلود في المدرسة، ثمّ حلقات الظهيرةِ مع ماما ماجدة.. وحلقات أسبوعية كلّ يوم سبت في مركز الهدى، وحلقات أخرى مع مس مروة في مركز اليرموك فرع الجمعية الرئيس بإربد.. وحلقات الصيف المكثفة مع خالتو هدى أم محمد وخالتو المديرة أم ناصر.. 

مضت خمس سنوات على تلك الأبيات! والآن؟

أتأمّل فتيات نادينا المحببّ بعينِ العبد الذي يسأل الله أن يتقبّل سعيه ويباركه، وأن يثبّت رفاقه ويمنّ عليهم بالمحبّة التي أوجبها لعباده الذين يجلسون في سبيله يتدارسون الآي ويتعاهدونه بينهم.. 

للهِ جِهادُ فَرَح وجهادُ عَبِير وجِهادُ نعْمَة، للهِ انتظارهُنّ وشرحُهُن وتركيزهُن لتصحيح خطأ ومعلومةٍ وضبطِ مخرَج حَرف. للهِ سَعيُ المشرفات وتطوعهنّ وإحسانهنّ، للهِ ثباتُ الطّالبات وصبرهنّ ومحاولاتهنّ. للهِ كلّ ذلك التكرار، ما أصاب منه وما لم يصب. للهِ التعتعة والمشقّة وبحّة الصّوت بعد ساعاتِ التدريب.

للهِ اجتماعنا على شيء من علوم القرآنِ فجرًا وضحى، ولله ضحكاتنا قبلَ صلاةِ الظّهر. للهِ صوتُ عَبيرة الآسر، وصوتُ زُهد وصوتُ أفنان الهادئ، وللهِ صوتُ آلاء ومشاكسات فاطمة لَهَا، للهِ صوتُ حبيبة الذي يذكرني بصديقتي عُهُود، للهِ صوتُ هُدى السبّاقة في رياضِ الذِّكر تتلو الآي وتقرأ الأذكار. للهِ صوتُ شيماء الذي نُحبّ، وللهِ أصواتُ الأحبّة في حلقاتِ يوم الجمعة الاستثنائية. للهِ صوتُ أسماء الذي يفتح أعيننا على خُضرةِ الخَريفِ حولهَا، وصوتُ الزّهراءِ الذي يجعلنا لا ننسى ما تقولُ كلّما وقفت على آيةٍ تتدبّرها. 

للهِ صوت عفراء المثابرة للهِ سعيها لساعةٍ نتآزرُ فيها لتسميع الوِردِ اليوميّ، وللهِ البسماتُ اللطيفةُ التي يرسلها بوجودِ هادِي الصّغير حولها، يتساءل عن حفظنا ويلتقط الكلمات فيسأل ماذا تعني كلمة ركيك؟ ركيك يا هادي تعني أننا لم نرضى بالوقف الاضطراري الذي يحدثه التفكير في كلمةٍ وسط الآي. وللهِ صوتُ لميس نهايةَ الأسبوع تترقب أصواتنا لمراجعةِ حفظ الأسبوع. 

كيف كنت تتوجس خيفةً في أحيان، وتنطلق معهم في الحديث أحيانًا أخرى.. وكلما مضى يوم، وجدت فيهم حُسن خلق وخفةً في النّفس، بل وخفة دمٍ نبيلة. تجدُ في كثيرٍ منهم لُطفًا بالغًا، وفِي جماعةٍ منهم عذوبةً متزنة، وفِي الهادئِينَ عملًا دؤوبًا وجهادًا خفيّا. 

يكبُرُ المشهد وتمتدّ الصّورة بكم جميعًا، يبارك الله في الجَمع ويتحلّق الأصحاب في الاستراحة والمصلى والسّطح. تتّسِعُ النّظرةُ ويخشع القلب متأملًا الطّريق.. سابحًا في السماء المرفوعةِ بغير عمَدَ، والجبال بأكنانها، والأرضِ! الأرض التي يخطو عليها.. 


أروى بنت عبدالله 
أرشيف ١٤٤٣هـ
نصّ بين: يوليو ٢٠٢١ - يناير ٢٠٢٢م 

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2021

أصوات (٢) نادي الثالثة صباحًا..

 

مرحبًا وحُبًا أصدقائي،
استلقيت مساء يوم الأمس رغمًا عنّي، بجسد منهك لا يكاد يتذكّر كيف مرّ يومه ووصل إلى الساعة الحادية عشرة، حاولت رفع الهاتف لأكتب بضع كلمات، فلم أستطع حمله خشية أن يسقط على وجهي، ثمّ التفت يسارًا أبحث بعينيّ عن سماعتي الصغيرة لأستمع إلى رسائل رفيقتي هاجر، لكن يدي لم تكن لتمتدّ طويلًا لتصل إلى الطاولة متناولةً السماعة، لم أستطع فعل شيء. تأمّلت الهاتف المستلقي ببطارية قليلة جدًا قد ينطفئ على إثرها قبل أن يرنّ منبه الفجر على الأرجح، لا بأس يوقظني الله بمن يسخّر. أغمضت عيني، وانتبهت بعد نصف ساعة على صوت الكلمات تكتب نفسها في ذاكرتي وأنا شبه نائمة، والآيتان الأخيرتان من سورةِ الحديد ما زالتا تترددان في أذني بصدى صوتِ عبير. 

وفي خضمّ كلّ ما قبل لحظةِ نهاية اليوم تلك، أخوض في الحياة باحثةً عن فكرة ومتأمّلةً في معنًى وسابحةً في ملكوت آلاء الله. أتأمّل خطواتي المتسارعة في ممراتِ كليّة الحقوق، وخطواتي المتسابقة بين كلية التربية وكلية العلوم، وخطواتي الهادئة بين وحدات المجمع الخامس قاصدةً محرابَ الحافظةِ الحبيبة. وفي معظم الأيّام، أتأمّل سعي النّاسِ الحثيث صباحَ كلّ يوم، أفسح الطّريق لمن يحمل في سيارته أطفالًا، وأتجاوز اللاهين بهواتفهم، وأرى مجازًا في العيون المشرّعةِ تشريعًا وبين يديها كوب قهوة أو شاي رباعيات محمود درويش..
"أرى ما أريد من النّاس:
رغبتهم في الحنين إلى أي شيء 
تباطؤهم في الذهاب إلى شغلهم 
وسرعتهم في الرّجوع إلى أهلهم". 
أدخل مكتبي وأتأمّل النّافذة بحثًا عن عائلةِ الحمامِ التي تسكن ثقبًا في المبنى المجاوِر، لمَ تأتِ الحمامة منذ بدايةِ الأسبوع.. هل طُرِدت مؤنستي من عُشِّها؟ عشّها؟ ألمحَ أحجارًا وآثار اسمنت حديث... غادرَ الحمام الزّاجل النّوافِذ، ولَن يواسيني مشهد الحمامةِ التي تسعى قُبيلَ ظهيرة كلّ يوم بين واجهةِ المبنى وساحتِهِ الخلفية عشراتِ المرّات ولا تعود إلا بشيء صغير لا يكاد يرى مقارنةً بحجم منقارها الصّغير. 

تساءلتُ مرّةً -قبل ثلاث سنوات- في تويتر قائلةً: كنت أفكر في اقتباس "⁦‪تهونُ‬⁩ علينا في المعالي نفوسنا"، لأي درجة يمكن للإنسان أن يضحي برغبات نفسه وراحة جسده وصحته وقربه من أهله حتى يصل للعلا حسب مفهومه؟ 
وبقيت أسعى مهونةً على نفسي الرّحلة بما بعدها، فيأتي ما بعدها ولا يتغيّر من النّصب شيء سوى أنّه ينصب في اتجاه آخر وبطرق مختلفة تغيّر علينا وتيرة الحياة فلا نضجر. لكننا نستمر... مؤمنين بأنّ كلّ الخطوات الصغيرة ستكبر! 

أتذكّر في الأثناء ومع ازدحام خطوط النهاية مطلع هذا الشّهر -بدءًا من ختام مقررات الماجستير وانتهاءً بختامِ سنتي الأولى في عالمِ المحاماةِ العجيب- أنني شرعتُ قبل عامٍ في قراءةِ كتاب نادي الخامسةِ صباحًا لروبن شارما. أوه! نادي الخامسة صباحًا؟ 


-قصاصة من الأرشيف- 


لطالما بدأتْ صباحاتنا بعد الفجرِ بأصواتِ طيورِ الحيّ ورِفاق الحلقات وديك الجيران بصياحِهِ المُزعج. وقت تسبّح فيه المخلوقات كلّها، وتقومُ أنتَ مع ناديك المفضل لتُسبّح الله وتذكره وتشكره، مع مجموعةٍ من الرّفاق. "هل في الدُنا شيءٌ يُعادِلُ بُكرةً؟ جرّب -فديتُكَ- نشوَةَ المستبكِرِ". أتذكر هذه الأسابيع أحدَ أشهرِ كُتُب رُوبن شارما الأخيرة (كتاب: نادي الخامسةِ صباحًا)، وأتساءل إذا ما كان يعرِفُ عن نادي الثالثةِ صباحًا! لابدّ أن الشخص العظيم والمتفرد والسبّاق في الميادين الذي يحاول صناعته وتدريبه بذلك الكتاب، سيصل. 

لكن، ماذا عن الذي يسبق أولئك العظماء، الذين يراهم العالم أفذاذًا في سباقات الدّنيا، بساعتَينِ! وإضافةً إلى الوقت، فهو يسبقهُمُ وبين يديه كتابٌ مُبين، ويحاول جاهدًا في ذلك الوقت الذهبي الثّمين أن يملأ قلبه نورًا منه. يقومُ من نومِهِ مُتعبًا فيتقوّى به، ظمآنًا فيرتوي منه، الكون حوله مظلم فيستدلُّ بنورِه، وموحِشٌ فيأنَس بكلامِ ربّه فيه. مَن أعظم من هذا عملًا ومنزلةً إذا أخلَص؟ ومن يسبِقُهُ في الميادينِ كلّها وقد صَدَق؟ 

"للهِ درُّ الناهضينِ مُبكرًا من لذّة النّوم العمِيقِ المُسكِرِ". 
لله درّ الرِفاقِ الذين تقطع أصواتُهُم تلك اللذّة المسكرة، قاصدينَ مولاهُم وكلّهم طمَعٌ فيما عندَهُ من أسمى لذائذِ النّعِيم. لله صوتُ الحافظاتِ المتفكّر في النّور لحظات القيامِ الأولى، وأصوات الذاكراتِ بعد صلاةِ الفَجر. للهِ صوتُ منبه الهاتفِ الذي يدوي في أذاننا خشيةَ أن يسلو منبه القَلب فتفوته المجالس التي تحفها الملائكة، للهِ الاتصالات الكثيرةُ المتكررةُ التي نتبادلهَا خشيةَ أن تفوّت واحدةٌ منّا الحلقة. للهِ صوتُنا المتحشرجُ أوَّل الصّباح، وأكواب الماء السّاخن تلفّ بيننا ليصفو فنصحح أخطائنا في التلاوة. 

ومعَ كلّ ذلك التأمُّلِ السّاكِنِ لأصواتِ الرّفاق، تتداخلُ أصواتُ الحياة الواقعيّة، لتذكّرنا أننا لسنا في نفسِ المجلس ولا في نفسِ البقعةِ الجغرافيّة. 

————— 

تذكّرت تلك القصاصة من أرشيف الملاحظات التي كنت أكتبها بين الفينةِ والأخرى أيّام الدورة المكثفة العاشرة. إن كان في الأيّام استشعار دائم للُطفِ الله الذي ملأ أوقاتنا بذكره، وغمرنا بكرمه، وأنعم علينا بمعاهدةِ كلامه والسّعي لإتقانِهِ تلاوةً وحفظًا وعملًا بإذنه، ورزقنا السير في طريقِ العلم النافع في مختلف المجالات، نسأله به العمل المتقبل والرزق الحلال الطيّب.. تطيب لنا الحياة ويهونُ حقًا كلّ ما نبذل، لأنّ العلياء التي نراها لن تكون علوًا في الأرض بل فردوسًا في السماء تهون دونه نفوسنا. 

بمثل هذا يدرك المرء معنى أنّه اختارَ دربَ الهُدى، وأنّه يريد أن يمنحَهُ الله المزيد. يومَ يستلذّ المشقّة التي تُعييه آخر اليوم، ويتَرَقّبُ لحظاتِ المسرّةِ التي تُشعِلُ فِيهِ جذوةَ حَثِّ الخُطى. فيفرح بما آتاه الله ويسأله الرّضى، "حمدَ الرّضا بحكمه لليقين بحكمته". ياربّ الذين رضيت عنهم ورضوا عنك.. 

أروى بنت عبدالله 
٩ جمادى الأول ١٤٤٣ هـ
١٤ ديسمبر ٢٠٢١م 
-أرشيف يونيو ٢٠٢١م- 

الثلاثاء، 23 نوفمبر 2021

أصوات* (١) استهلال..

بسم الله الرحمن الرّحيم، بسم الله السميع البصير، بسم الله القريب المجيب، بسم الله الفتّاح العليم.. بسم الله الكريم الذي وسعتنا رحمته، وغشيتنا السكينة فضلًا منه، ورزقنا ظلًا وارفًا نتفيأه بين آياتِ كتابه العزيز. بسم الله الذي علّم بالقلم، بسم الله الذي علّم القرآن وجعَل أهله من خاصّته، ومنّ عليهم بالسكينة والطمأنينة، وبالملائكة الطوّافة على مجالس الذّكر تحفّ الأصحاب الذين يتعاهدونه تلاوةً ومدارسةً. 


بدأت تفاصيلُ الكثيرِ من الحكايا في شاشة صغيرة، ترى فيها دوائر ملوّنة تتلوّن بها الأيام وتتزيّا بها ساعات الفجر الأولى. "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يا أروى"، "أذكار الصّباح يا رِفاق"، "ارفعي أقصى اللسان ووسطه لينحصر الصّوت ويعلو"، "ساعة الترفيه يا أصدقاء"، "هلمّوا إلى رياض الذكر"، "تدبّر اليومَ مع الآية ٢٩ من سورة الفتح"، "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا"، "وصلنا عند قصة صاحب الجنتين"، "مبارك يا أصحاب أتممنا سورة البقرة".. كان لكلّ نداءٍ وقعُه، ولكلّ كلمة أثرها، كانت الأصوات تتابع بانسجام، وتتداخل. 

وبعد وقت مستقطع من الزّمن، جاءت البُشرى لتطمئن القلوب بالقُرب. كانت العودة إلى مقاعد الدراسة حضوريًا خبرًا سعيدًا ومبهجًا لسبب عظيم! سنتحلّق جنبًا إلى جنب، نتلو الآيات ونبصر أثرها في عيون الأصدقاء، وفي أصواتهم، الأصوات التي لن يقطعها إغلاق مكبّر الصّوت ولا مداهمة خارجية في الأرجاء. بدأت اللقاءات بشيء من الفرحة العارمة في أحيان، وبشيء من التوجس في أحيان. هل هذا العالم حقيقي؟ هل الأصحاب الذين يبدأ اليوم بالقيام آناء الليل معهم حاضرون أمامنا الآن ويتحدّثون إلينا؟ هل هم الذين صافحتهم أم أن خيالًا مرّ بصدى أصواتهم قبل قليل؟ هل سأجدهم في نفس المكان إذا جئت غدًا؟ 

نتذاكر معًا كيف بدأ عامنا الهجري بجملة من الترقّبات، هل سنتأهل؟ عند من سنقرأ؟ كيف سيكون الاختبار النهائي؟ هل حفظي ثابت ومتقن؟ كيف كان تطبيقي للأحكام التجويدية ساعة السّرد؟ .. نعيمٌ من الهموم القرآنية! ولطالما استشعرنا في الأثناء فكرةَ أن تحفّ الملائكة حلقاتنا الالكترونية تلك، حلقة كبيرة ممتدّة من أقصى الجنوبِ إلى أقصى الشّمال، كم من الملائكة في كلّ تلك البِقَاع تحفّنا جميعا ما جلسنا وصدقنا واحتسبناها ساعاتٍ في سبيل الله! ياللخيرِ العميم الذي انسكب على هذه الأرض وغشيها.. 

وبعد أن غَفَت وتحوّلت كلّ جوارحك إلى آذان في زمن مضى. تستيقظ! تستيقظ لترى الأصوات وتلمسها ويعلقَ بكَ شذى عبيرها. 

عن الصّديق الذي يتذكّرك في المختبر وهو يتأمّل خضرة الأغصان الممتدة أمامه، ويراك في امتداد الظلال وتداخلها وهو جالس في كرسي برفقةِ مُصحفهِ يُراجِع محفوظه. عن صاحبٍ تركب معه حافلات الجامعة وتتخيلها تدور بكما بين مكّة والمدينة، فتدعو الله كثيرًا أن يروي ظمأ الأشواق بزيارةٍ قريبة. تستفتحان بالآيات كلّ لقاء وجلسة لتتذكّرا أنّ الله جمعكما في أجلّ الدّروب وأطهرها. 

عن صديقٍ يوصلك إلى محاضرتك ويلقي عليكَ أبيات شعر قبلَ أن تفترقا، ويدعو لك كثيرًا، سرًا وجهرًا، بأنّ تكون ملحظ عنايةِ الله في كلّ خطواتك. وصديق تلقاه بعد اجتماعاتك الطّويلة الشّاقة، فيستقبلك بالبشر، ويناولك ما في يده هديةً نظير جهودك ومباركةً لكلّ إنجازاتك الصغيرة، حتّى والذي بين يديه بالونات زرقاء. عن الأصدقاء القادمين من البلاد البعيدة، تسارِع نحوهم شوقًا، وتصافحهم مصافحةَ العائد من سفرٍ طويل بعيد عن أحبابه. 

عن الصّديق الذي تجلس معه كلّ مساء على قارعةِ الطّريق، فتحكيانِ الهزائم الصغيرة التي جبرها الله بالآيات، والعزائم الكبيرة التي دفعها الله بالآيات، وأطرافًا من سعيكما الدؤوب في مختلف مسارات الحياة. عن كلّ الأيّام التي يتلقّاك فيها الصحب بالمحبّة، بالنّجومِ اللامعةِ في أعينهم، بالنّرجِسِ والياسمين، وبمخبوزاتهم التي لا يفارق مذاق حلاوتها قلبك.


عن أَحبِّ الصَحب وأقربهم، صحب القرآن 💙🌿.


أروى بنت عبدالله 
١٨ ربيع الثاني ١٤٤٣هـ
٢٣ نوفمبر ٢٠٢١م 

___________________________
*أصوات 
سلسلة من الحكايا واليوميات عن صَحبِ القرآن 
تدوينة جديدة كلّ يوم ثلاثاء بإذن الله..  


الخميس، 8 يوليو 2021

كلّا والله.. لن يضيّعك الله أبدًا


تأتيك لحظات تشعُرُ فيهَا أنّك بعيدٌ جدًا، بعيد كثيرًا، ولعلّك الأبعَد، الأبعد حتمًا. وليقينِك التّام بأن هذا ميدانُ تنافُسٍ، تشتَعِلُ في نفسك الحماسةُ تارةً، وتذوي من بُعدِك في أحيان. يريكَ الله فيمن سبَقَك الخير، ويقيّض لكَ من حولكَ الأخيَار. يريدُكَ الله حقًّا، يريدُكَ مِثلَهُم، يريدك قريبًا منه، ويقرّبُكَ من أهلِهِ وخاصّتِهِ.

ألستَ من سأل الله حُبّه وحُبّ من يُحبّه وحُبّ كلَّ عملٍ يقرّبك إليه؟ أتتكوّرُ على نفسك الآنَ هاربًا بضعفكِ ومختبئًا بتقصيرك؟ ألستَ الظمآن الذي منحه الله نبعًا وكان يسأله جُرعة ماء؟ ألستَ الضائع الذي يسّر الله لهُ مُرشدًا ودليلًا يأخذ بيده وقد كان يسألهُ خيطَ نُور؟ أتُفلِت أيديهِم الآنَ وتعودُ إلى منجمِكَ بمعوَلٍ هزيلٍ لا يُخرج من الثلاثين إِلَّا اللمعان الخارجي الذي لا ينيرُ سماءَ روحِك! 

انفُض عنك وهم عدم اللحاق بالرّكب، وأسأل الله الثّباتَ في الأمر والعزيمةَ على الرُّشد، هذه الطّريق لمن صَدَق وعَمِلَ. لا يضرّنك تعثّرك الآن فتسأم، ولا أخطاءك فتيأس وتستسلم، لا تسمح لشدّة أستاذٍ أن تُنفّركَ من الطّريق، ولا تترك لنبرةِ شفقةٍ من سابِقٍ أن تحوّل مسارَكَ. ألستَ قاصدًا وجه المليك الذي لا يُردّ عند بابه أحد؟ ألستَ محتسبًا كلّ هذا له وحده لا شريك له؟ أليسَ ما عنده أوسَعَ وأكبرَ وأرحَب من رجاءك؟ 

هل يضيّعُكَ الآن وقد أخلصتَ لهُ النيّة وسألته البركةَ والقَبول آناء الليل وأطرافَ النّهار؟ هل يضيّعُكَ الآن وقد صفا لك الدّرب واتضحت لك معالمه؟ هل يتركك وحيدًا متخبطًا لا ماضيًا ولا راجعًا؟ لا تعجَل، ولا تفتر، ارسم سلالِمَ آخرَتِك واصعدهَا درجةً درجة. لا تقفز، وإذا عَرَض عارض فأوقِفْه دونَ تردّد. ولا تنفرد، أنتَ تعرِفُ الطّريق وقد سخّر الله لك -زيادةً- مِنَ النّاس من تستشير إذا تغلّقت في وجهِكَ الأبواب. 

اصنَع من توالي الختماتِ العَذبةِ قوّةً في نفسك، وإصرارًا لمُتابعَةِ سعيك، وصورةً نقيّة لمشهدِ ختمتك. 

أروى بنت عبدالله 
٣ يوليو ٢٠٢١م 

الخميس، 24 يونيو 2021

بينَ اختبارين..


انتهى الاختبار النظري الثاني من اختبارات الدورة المكثفة العاشرة قبل دقائق. عندما عدت لمراجعة بعض إجاباتي وجدتُ ثلاثةَ أخطاء. أردت أن أضرب الطّاولة بقبضتي بعد عصير المخّ الطّازج الذي نتَجَ عن مذاكرةٍ مكثفةٍ حتّى آخر لحظة. رددت بهدوء ويقين، ياربّ يارزّاق، ياربّ يارحمن يارحيم يارزّاق. 

ثم تذكّرت أختي القرآنية، الغَالية. حين كنّا نتحدّث ظهرًا عن هاء الكناية، فأخبرتها أننّا ننتظر اسمها في رأس قائمة متميزات الأسبوع، فقالت: جميعًا ياربّ. وبعد معرفةِ أخطائي تلك، ولحظةَ كُنت أجمع الأوراق لأعيدها داخل الكتاب بشيء من الحُزن، تذكرتُ حديثنَا فقفز على لساني دعاءٌ جعلني أقفُ مشدوهةً جدًا.. "لا نريد أن يتخلّف أحدنا عن الجنّة ياربّ". 

سرحتُ طويلًا... يكفي المرء نعيمًا استشعار لُطِف الله به، وتذكيره له، بأن الغاية جنّة عليّة لا نريد أن يتخلّف عنها الأحبّة، أهلنا وأصحابنا! وما بَذْلُنَا في هذه الدّروب وجهادنا إِلّا خطوات يسيرة وحجارة صغيرة نبني لأنفسنا بها بفضل الله الدرجات التي سنعلو عليها بكلّ حرفٍ وكلمةٍ وآية. نريد بها ألّا نتوقف عن الصّعود حتّى نبلغ الفردوس، نطمعُ ألا تكون آخر آيةٍ نقرؤها قبلها ولو بقليل. 

ندرك أن الغاية من الوقوف على آيات القرآن تَلَمُسُ طريق الهِداية، أن يجعلنا الله مهتدين به وهادِين. أن يقبلنا عنده عبادًا صالحِين. أن يتقبّل أعمالنا فيباركها ويزيدها ويقرّبنا بها إليه -جلّ وعلا-. فهل سنَبلُغ؟ هل يبلغ المتعثّر مقام راحته، والظمئان مورد ريّه؟ نسألُهُ القَبول، أن يقبلنا عِنده، أن يجعلنا من أهلِهِ.. وخاصّته. 

بين اختبارين، اختبار صغير تعلم أنّه طريقٌ يوصلك للنجاح في الاختبار الأكبر، لكنه حتمًا ليس كلّ شيء! تحسس موضع الآية في قلبك، وفي قالبك. ابحث عن سبيل لتطبيقها حتّى تراها حاضرة فيك وفيما حولك. واحفظ حقّ الله وحدوده ليحفظك الله بالقرآن. كُن قرآنًا يمشي على الأرض كما كان رسولنا الحبيب ﷺ، وقف على ثغرك بعزّ وعزم وقوّة وثبات. واعلم أن في سعيك للتحرّك به، زيادة في الإيمان وفي التقوى فلا تفتر. 


أروى بنت عبدالله 
١٣ ذو القعدة ١٤٤٢هـ 
٢٤ يونيو ٢٠٢١م 

الأربعاء، 9 يونيو 2021

عن فُسحةِ الرّوح..


يخطو الإنسان في دروبٍ كثيرة، يحتار بينها تارةً ويتخبّطُ تارة. يجد في أحيان دربًا يظنّه سرمديًا، ويرى فيه بصيص نور النّفق الذي يريد أن يصل إليه ليُطِلَّ منه على فسحة الحياة، الفسحةُ التي صوّرتها لنا القصص كروضةٍ غنّاء، بنهرٍ جارٍ وخريرٍ عذب، تغريد طيور الكناري في الهواء الطّلق وتردد صداه الآسر بين جبالٍ شاهقةٍ، وهضابٍ سهليّة تُغري الخارج من ظلمة النّفق بنيلِ قِسطٍ من الرّاحة على أعتابها. لكن تلك الخيالات تتلاشى مع صوتِ أوّل خفّاش، يداهم الشّاقَ طريقه، فجأة، ليخبره أن الطريق خطأ وأن هذا الدّرب لا يفضي لشيء. 

لا عليك يا صديق، لا تحزن، يوجد درب حقيقي مثل ذلك، وأنفاقه ليست مظلمة ولا سوداء، بل وخالية من الخفافيش. عن نفقٍ في آخره مصباح ﴿المِصباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوكَبٌ دُرِّيٌّ يوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيتونَةٍ لا شَرقِيَّةٍ وَلا غَربِيَّةٍ يَكادُ زَيتُها يُضيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نارٌ نورٌ عَلى نورٍ يَهدِي اللَّهُ لِنورِهِ مَن يَشاءُ وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ لِلنّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾. عن نُورِ الله الذي يتوهّج في قَلبِ المؤمن، فيجعله كوكبًا دريًّا دون قلوب كثيرٍ من أهلِ الأرض. عن ذِكْرِ الله لشجرةِ الزيتون المباركة وزيتها الذي يضيء صفاءً ونقاءً. نور لا يضاهيه نور، وفتيلٌ إذا مسّته النّار أشرق أكثر واجتمعت معه الأنوار.  

وفي وقتٍ استثنائي مثل هذا، نُحِبُّ ذِكْرَ الأنفاق رغم الرطوبة وضيق النّفس الذي فيها، لأنّها طريق النّصر ومصدر القوّة والعزّة للأُمّة الإسلاميّة جمعاء. وأنت كذلك في نفقك السائر به إلى عليائك، يقيّض الله لك رفاقًا لم تتوقع وجودهم في حياتك، ولم تعرف كيف دبّر الله اجتماعكم وألّف بين قلوبكم لتتحلّقوا حول كتابه تجاهدون لإتقان تلاوته. بهذا الجَمعِ ننتصر مئات المرّات، وبه نبلغ فسحةَ الرّوح المُخضرّةِ في آخر النّفق. إنّه الطّريق الوحيد الذي لا يمكن أن تعدّه طويلًا وإن شقّ عليك لأنّك على يقين من وجود الجنّة على أعتابه. 

اعرف أن دليلك فيه ومصباحك، قلبك الذي بين جنبيك. احرص على جودةِ الزّيت الذي تغذيه به، على صفاء سريرته ونقاء مخبره، ليختاره الله كوّة لنُور القرآن، نور الهداية والبركة والرّضا. ويختارك لتكون من أهله، أهله وخاصته، فيكرمك بهالةٍ وضّاءة، تغشاك بها السّكينة في دنيا الكدر والنّصَب. ثمّ يكرمك بروضةٍ ونور منذ انتزاع روحك التي ستبقى في روضةٍ من رياضه، ويكرمك بظلال عرشه، وتيجانٍ من نور، "من عُلُوٍ لعلو لارتقاء، بين أصحاب القلوب الأتقياء". صعودًا على الدرجات إلى الفردوس الأعلى، لتتقابلوا على سرر موضونة، دانيّة عليكم القطوف ومذللة لكم ثمارها. 

تزاحمني الدّمعات وأنا أكتب صورةً من النّعيم المُعجّل الذي يمنحه الله جلّ جلاله لصاحب القرآن. فيرزقه من أهله قرّة عين، تثبّته وتشدّ على كتفه، ويرزقه من النّاس أصحاب، يصبر نفسه معهم، فلا تعدو عيناه عنهم تريد زينة الحياة الدنيا. ومن الحديث عن نعمةِ الله على العبد الفقير إليه، أتلمّس فضلَ الله وكرمه عليّ إذ رزقني الأمرين، "‏وما زَالَ يُولِيني الجميلَ تَلَطُّفًا.. ويَدفَعُ عنّي في صُدُورِ النَّوائِبِ". 

وفي المواضع التي يتجلّى فيها كرمُ الله، أتأرجح في الغالب بين شعورين، شعور الرّضا وسكينة المحِبّ الذي يبلغه من محبوبه الحسنى، وشعور مرتبط بهَمّ القَبول يجعلني أردد اللهم لا تجعلنا من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا. ويالِ ما في همّ القَبولِ من منعطفات، لا يتجاوزها السّاعي دون استحضار نيّته وتعميق إيمانه وإخلاص عمله. وما أعظم أن يستمر سيره متسلحًا بالدعاء، ومطهرًا قلبه بالذكر الكثير، شاكرًا وحامدًا ومستغفرًا ومكبرا. 

أختمُ هُنا، بِسْم الله الرحمن الرحيم، ذي الفضل العظيم الذي سحَّ دفاقًا بالمُنى، فبلّغني ورفيقات الحلقة المتقدمة لحظة البشرى والالتحاق بالدّورةِ المكثفة لنادي إتقان التلاوة هذا الصّيف. لنكُون تحت ظلاله نسابِقُ خُضرةَ الخريف، ونغرِف من معين لا ينضَب، سائلين الله التّمكين والقَبول والفوز بالرّضوان. وبهذا يُفتَحُ لنا باب جديد، نقترب بدخوله من روضةٍ أرحَب ونسأل الله أن نصعد به درجةً أرفع. وتبقى همزةُ الوصل الوثيقة ورابطنا بكلّ الرفيقات في مختلف المراحل، الغايةُ الكُبرى التي نسأل الله جمعًا مباركًا على ضفاف أنهارها.  

أروى بنت عبدالله 
٨ يونيو ٢٠٢١م 



السبت، 1 مايو 2021

تحدّي الكتابة (٣٠) خطّ النّهاية..


يُختم اليومَ ملفان، ملفُ تحدّي الكتابة، وملف المرحلة المتقدمة في التلاوة لهذا الفصل. ٣:٥٨م 

أخبرتُ أميرة الحَلقة أَنِّي لا أريد كتابة كلمات وداعية حتّى لا أواجه حقيقةَ أننا أنهينا كلّ متطلبات الحلقة لهذا الفصل وتمّ اليوم بحمد الله الاختبار النهائي. لكنني في الوقتِ نفسه لم أستطع تجاوز الحُبّ الذي بعثه الله في قلوبنا لها، والتّقدير الكبير الذي نتلمّسه فينا لها ولجهودها وبذلها وإخلاصها وصدقها. 

وفي هذا التّحدي، عليّ أن أقدّر الصّبر الذي منحنيه الله، والقوّة على تجاوز كلّ العقبات أمام نشر النصوص. الحمدلله على كلّ فكرة فتح عليّ فكتبتها، وكلّ كلمة ألهمنيها فسطرتها، الحمدلله على رفيقةٍ كميعاد، أرى فيها معاني التواصي بالحقّ والتواصي بالصّبر. وليس هذا من أحاديث طويلة، ولا مراسلات كثيرة، ولا مكالمات متكررة، وإنما هي أرواح تآلفت. 
رغم حماستي ومتابعتي لتحديات الكتابة، لم أتوقع أن أجد صديقةً ولم أفكّر حتى بالبحث.. وعندما رأيت سؤال ميعاد في حالة الواتس اب، تعجّبت! الله، ميعاد فتاة ذات عزم وتتعامل مع الأمر بجدّ وحزم. يا لها من فرصة ثمينة. ١١:٣٠م

٣٠ ابريل ٢٠٢١م. 

استجاب جسدي لفكرةِ الاستسلام، فنام والنّص بين يديه قبل أن يتمّ أو ينشر، والآن بعد أن استوعبت الأمر، لا أريد نشر النّص الأخير، ولا أريد أن أصدّق فكرة أني لن أسابق الزّمن بعد اليوم لكتابة نص ونشره. 

ومن طباع هذه الأيّام، أن تتحفّز فيها رغبة الانعزال، يودّ المرء فيها أن يدّس نفسه في خيمة أو غار، لا يريد مواجهةَ العالم ولا الاختلاط به ولا دخول أيّ من عوالمه. لا يريد أن يتحدّث ولا أن يُحدّث بشيء. وفي الخضوع لهذه الرغبة منحنيان خطيران، ينحرف الأوّل بالإنسان عن سماحته ويورثه الغِلظة، ويستقرّ الثّاني بنفسه فيحصّنه بإيمانٍ قوّي يواجه به ما يعترضه من صروف الحياة. 

وهنا نختم بأن نستودع الله العزيمة التي جعلت همّنا الظَفَر لا الغنيمة، فتمّ بحمد الله #تحدي_الثلاثين 
وظفرنا خلاله بقصاصات جديدة، أغنت مدوناتنا وخاضت بِنَا في لذائذ مختلفة، وخرجنا منها بستّين نصًا نأمل أن يمتدّ لهن أثر في حياتنا وبعد مماتنا. 

ومن هذا ألفت عنايتكم إلى فكرة مهمّة، لا يدركها الباذلون في الفضاءات الالكترونية كثيرًا، إن مما يحفظ عزيمة الإنسان ويثبّته في مختلف الأمور إيمانه. الإيمان الذي يدرك به معنى أن يبذل عنايةً بمحتواه لأن الله أمره، وأن يسعى في الطّريق وإن خَلَت من خلّة تشدّ أزره لأنه الله خلقه للمضي لا للرُّكون. 

والخاسر من لم يظفر بعملٍ يرزقه دعاء قارئ، أو أجر انشراح صدر متابع. من لم يسهم في يقظةَ عابدٍ أو عاملٍ هدّ الضجر همّته، وأرخى صعود التفاهة سعيه. وكثيرًا ما انبهرت بحساباتٍ يبذل فيه أصحابها بصور عديدة، والأهمّ والأبرز أنّها مستمرة رغم أن عدد المستفيدين منها بالنسبة للأرقام التي وصل لها العالم من حولهم قليلة. وقد قال رسولنا الحبيب ﷺ "لئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خيرًا لك من حمر النّعم". 

انزِل إلى السّاحةِ بما عندك، وعلى رسلك، تعلّم ما يخدمك لتحقيق رؤية ورسالة واضحة ثابتة، ترفعك درجات عن الله، ثمّ ينتفع بها غيرك فترفعهم درجات. زكاة لوجودكِ الطّويل في الفضاءات المختلفة، انتقل من هامش التأثر إلى متن التأثير.. مدركًا مسؤليتك، وعارفًا بغيتك. 

أروى بنت عبدالله 
١٨ رمضان ١٤٤٢م 
١ مايو ٢٠٢١م 
السّبت ٨:٤٩م

الخميس، 29 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٩) عن أُسطول بحري..


كلّ الذين ظنّوا أن السّفينةَ ستغرَقُ بدونهم، غرقوا، وبقيت السّفينة شامخةً تمخر عباب بحرِ الحياةِ بعزمِ ربّانها وإيمانه وصدقه. 

لا تقف الحياةَ عليك أبدًا، ولن تقف لك. في أقصى وأحلك ظروفك ستراها تفلت من بين يديك، وفي رحابتها والسّعة التي تستقبلك بها إفلات من نوع آخر. 

سيكون لك آثار باقية، يتلمسها الأسطول الذي كنت تنتمي إليه، وسيبقى اسمك في بعض الأوراق، ستمر عليها السنين وتنتهي معاملاتها ثمّ تُركن في أرشيف أو مخزن، ثمّ ماذا؟ ستتجدد الأسماء وسيرفع الشرّاع وتُسحب المرساة، وما نقص قارب بالنسبة لأسطول؟ 

هذا ما أقوله لنفسي في كلّ رحلة أدرك معنى أن أكون فيها مجرد راكب، أو مساعد ربّان. إنّ للأساطيل الضّخمة قادتها الذين بنوها خشبةً خشبة، وجمعوا أسلحتها واحدًا واحدًا. أولئك الذينَ مضت بهم الحياة مبحرين رغم العواصف والأعاصير، ورغم قراصنة البحار الذين حاولوا الاستيلاء على مقود السفينة الأولى، وخرائط الكَنز. 

تستطيعُ بعد أن تكسب ثقةَ الربّان والقائد الأوّل، أن تتعاون معه، وقد يُخرج معك فرقةً من أسطوله لتبني لك أسطولًا خاصًّا، وسيُعينك على تقويته ويرشدك في الطّريق. غيرَ هذا لا تكُن أنانيًا، لا تفكّر بالسّرقة، لا تحاول إمساك لجام خيل ليس لك، وإلا سيرديك غريقًا كما غرق من قبلك. 

تقوم الأساطيل الكُبرى بتكاتف كلّ العاملين في سفنها يدًا بيد، يعرف كلّ واحد منهم مهمّته، يعرف التزاماته ويحرص أن يؤديّها بكلّ أمانةٍ ليرضى الله عنه، الله وحده لا شريك له. يتبع خطّة القائد بثقةٍ قويّة، يدلي فيها برأيه دون تعصّب، ويُشارك معارفه وكلّ جديد ليرقى ويتطّور الأسطول. 

يجب أن يؤمن كلّ فرد بأن نجاحه نجاحٌ للفريق، وأنّ نجاح الفريق نجاحٌ لكلّ فردٍ فيه. بهذا تقوى وترقى وتصعد وتتطور، وتستشعر أهمية المجتمع الذي تعمل معه وأهميتك فيه، أهميتك الحقيقة، لا تلك التي تجعلك تظنّ أن تماديك وخروجك خسارة كبرى، تذكّر أنَّك ستكون خاسرًا أيضًا، لأنّ الفريق بقي بمن فيه، وحدك الذي خرجت. 


أروى بنت عبدالله 
١٦ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٩ ابريل ٢٠٢١م 

الأربعاء، 28 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٨) رياحينُ حكايا..


أتذكّر أني أخبرتكم في أحد النّصوص شيئًا عن نهايةِ المراحل في حياتنا وبداية أخرى. مثلها تمامًا نهاية هذا التّحدي. بيد أن من عجائبه أنّي كتبت يوم أمس نصًّا فجريًا ونسيته لأنني لم أنشره، وكتبت مساءً نصًّا آخر. وهذه الأعجوبةُ تدحض فكرة الملل من الكتابة بسبب الانهماك في التحدي.


كان هذا اليوم مرهقًا، مرّت عليّ خلاله ثلاث أخبار وفاة، كان أحدها لفتاةٍ يراودني شكّ بأنها التي كانت تجلس على يميني في المدرسة عندما كنا في الصّف الثّامن. لم أجرؤ حتّى الآن من سؤال أي فتاة أخرى عنها لأتأكد من الخبر أو أنفيه. 


تراكمت عليّ بعض الأعمال، وسيتطلب مني الأمر اعتكافًا حقيقيًا عليها لتفادي حصول أي أضرار. بعد غدٍ اختبار نادي التلاوة النّهائي، المعلّمة تبذل معنا قصارى جهدها، ونعمل نحن فرادى على أنفسنا، نراجع ونتلو ونصحح. بالإضافةِ إلى التزامات أخرى منها استشارة قانونية أجّلت مراجعة أوراقها، وأخرى استشارة بحثيّة عليّ إتمامها خلال يومين. ويا لعجب قدرتي على اختصار كلّ تلك الأعمال في هذه السّطور بينما أراها كبيرة وكثيرة مقابل الوقت الذي يجب أن أتمّها فيه. لا بأس، ييسّر الله كلّ عسير، ويفتح من عنده لمن شاء من عباده، يشدّ وثاق الأحلام ويرزقنا قوّة احتمال وتجاوز العقبات، ويمنحنا طاقة الانطلاق مجددًا كلّ مرّة. 

أتت في هذه الأثناء نُتيلة، لترسل لي مجموعة أناشيد، "أروى، المجموعة الرّابعة عن القوّة والعزم ستعجبك كثيرًا"، لقد أعجبتني كثيرًا يا حبيبة. أُحبّ شخصيًا الجزء الثاني من مجموعات أناشيد قناة بسمة، وفي كلّها ما تأنس به روحُ الطّفولة وتتجدد وتنتعش. ومنها في الجزء الثالث أنشودة الرّاوي، أشعر في كثير من الأحيان أنّها كتبت لي، في معانيها ما يخصّني بشكل عجيب. في مطلعها رياحينُ حكايا، وفي صفة الرّاوي ذاته حكاية خاصّة مرتبطة بطفولتي التي أتذكّر منها نداء الأحبّة لي تدليلًا بالرّاوي.  

يذكّرني هذا بتعلقي القديم بقنوات المجد، وبراديو دال للأطفال بشكل خاصّ، كنت أستيقظ في الصّباح الباكر قبل الجميع لأفتحه في التلفاز لأن إخوتي يفضلون الكرتون المرئي أكثر من السمعي. 

وليس اهتمامي بالإعلام وبرامجه النّابعة من المبادرات السّعودية شيئًا غريبًا أو خارجًا عن المألوف، لا يُفرّط الطفل الصغير بعد أن كبر في فرصةِ أن يتعلّم من روّاد المجتمع الذي تابعه في سنينه الخالية.  

نختم بهديّة الليلة، مجموعة نُتيلة المفضلة لهذا الأسبوع: https://youtu.be/Wn4ALyh_qO0

أروى بنت عبدالله 
١٥ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٨ أبريل ٢٠٢١م 

الثلاثاء، 27 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٧) قالَب من الرّحلة..


يعرض مجوعة من الطّلاب نتائج أبحاثهم لهذا الفَصل، أتأمل الشرائح المحشوة بالكلام وأتساءل، ما مدى الفرق الذي تحدثه زيادة كلمة ونقصان أخرى؟ مضت السّنوات الدراسية السّابقة والأساتذة يعيدونَ علينا فكرة أنّ العَرض يجبّ ألّا يتعدّى رؤوس الأقلام، العناوين، وملاحظات صغيرة كلمة أو كلمتين، لا جملة كاملة الأركان ولا فقرة كاملة. هذه قواعد يعرفها الجميع، ويتبعها الجميع، نَعرف أن حجم الخطّ يجب أن يكون جيدًا ليُرى عن بعد، وكلّ ما يرد كلمات وأرقام استرشاديّة للمتحدّث فحسب. 

لا أعرف لماذا يكتب الطلاب بحثهم كاملًا في عرض شرائح، ولا أفهم جدوى أن يقدّم الباحث عرضًا يقرأ فيه شرائحه فحسب، يستفيض بعضهم في الشرح ويضرب الأمثلة، لكن وجود نصوص كاملة مشتت، يجب أن يستفزّ العَرض فضُولَ السّامع لا أن يقدّم له برتقالة مقشّرة يقرأها ويسرح باقي الوقت. 

أعرف أن امتعاضي هذا من اختلاف المدارس لن يجدي، وأنني يجب ألّا أنسى حتّى لا يتم استصغار بحثي بسبب القالب الكلاسيكي الذي أتبعه. إنّها نهاية الفصل الثاني من رحلة الماجستير، وما زالت بعض الصّور مبعثرة في ألبوم ذاكرتي.. ولعلّ للدراسةِ عن بعد أثرها الذي لا يستهان به. 

كنتُ أُحدّث مُزنة عن أبرز ما أضافته لي هذه الرحلة، فقلت لها أنني لا أبالغ لو قلت أن البحث هو أهم ما تعلمته من الماجستير على الصعيد الشخصي والعلمي والعملي وأعتقد أنّ الهدف من الماجستير أصلا "تخريج باحثين". استخدمت خطط البحث وشكله الذي تعلّمته من الدكتور معن في كلّ ما واجهته من أعمال، وضعت خطة بحثية لمراجعة بعض القوانين، وخطّة بحثيّة للحصول على صورةٍ كاملة للمؤسسة التي أعمل فيها ولخطتها الاستراتيجية القادمة. 

رحلة قابلت فيها أصنافًا جديدة وغريبة من البَشر، وشخصيات قانونية فيلسوفة لا تملك إلا أن تحدّق بكل حواسك حين تتحدّث، ومقررات لم أتوقع عمق ما فيها وتشعّبه. صادفت باحثين مخلصين يفصّلون في كلّ نقطةٍ أوردوها في أبحاثهم، ويتابعونَ بكلّ انتباهٍ أبحاث زملائهم ليدعموها بما عندهم من معارف. واكتشفت أروى خارقة، تعدو نحو ما عليها من واجبات، تنجزها في وقتها تارةً، وتصبح بطلةَ اللحظات الأخيرةِ في أخرى. تعلّمت قولَ لا في أقسى الظروف والمواقف، وتعلّمت قراءة الرسائل وعدم الردّ عليها. رغم أني لم أعتد على الأمرِ بعد، إلا أن الأمور تمضي هكذا في الوقت الحالي... 

في الختام، يجب أن أتنازل عن القالب الذي اعتدته، وأن أضع كلّ ما في البحث في عَرض قد يصل إلى ٣٠ شريحة عوضًا عن الخمسة التي أختصر فيها البحث عادةً. أنهيتُ النّص ولم تنته المحاضرة بعد، ويبدو أنها ستمتدّ لساعةٍ إضافيّة. يبدو من السّوء أن أكتب عن السلبية التي أراها في العروض، مقابل المتعةِ التي أعيشها في هذه الرحلة. تفاصيلها الغريبة مثيرة للدهشة، وتدورُ بي في محيط قانوني عجيب. تجربةٌ فريدة جدًا، لم أتخيل ولم أتوقع أن أخوض مثلها. 


أروى بنت عبدالله 
١٤ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٧ ابريل ٢٠٢١م

*هل نبدأ العدّ التنازلي؟ 



الاثنين، 26 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٦) أيّام قديمة..


أكاد أكتب رسالةَ وداعٍ هذه الأيّام، للكتابة التي أصبحت ثِقلًا في أيام متفرقة من هذا الشّهر، وللمدونةِ التي لم أستطع الانفكاك عنها منذ ميلادها. أمّا الكتابة فأعرّف أن من المُحالِ هجرها، بينما لي مع المدونةِ محاولة واحدة وحيدة، أنشأت يومها مدونة جديدة على الووردبرس، بدأت فيها بكتابةِ قصّة عن فتًى سمّيته عزّام، كنتُ أحاول أن أنقل بها واقع الشباب الجديد كما يُحكى في الكُتب القديمة. جهّزت قبل أن أبدأ، عددًا من الشّخصيات، ومجموعة من المواقف، وبيانات عن أنماط الشخصيات، وتحليلًا لمعاني الأسماء التي اخترتها. وبالإضافةِ إلى المكان والزّمان، رسمتُ القريّة التي ستحدث فيها القصّة، وشلالَ ماءٍ غزيرٍ عند مصبّه شجرة خوخ كبيرة ظليلة. حتّى أنني كتبت مجموعة أحلام لمناماتِ الشّخصيات، وبحثت عن بعض تفسيراتها العامّة. 

كان كلّ شيءٍ جاهزًا ومثاليًا لصُنع تحفةٍ فنيّة وأدبيّة عظيمة، قصة برسومات الكاتب. ولم أكن قد قرأت قصّة الأمير الصّغير وقتها، لا أعرف تفاصيلها ولا ملامح الرسومات فيها. وبعد أن وقعت في فخّ تفضيلها، تذكّرت قصتي المسكينة، لمَ لم أُكمل التّجربة يا ترى؟ لم يكن عندي وقتها ما خلقته في شخصية البَطَل من عَزمٍ سمّيته به، ولعلّ خفوت الشّعلةِ التي حملتها حينها طَمَس الطّريق أمامي. مضت ثلاث سنين، أو أربع ربما، من يدري.. تركت كلّ شيء وحذفت النّصوص التي نشرتها وأغلقت صفحةَ المدونة في أقل من شهرين حسبما أذكر. 

عُدتُ بعدها إلى عالمٍ أَرحَب، كُنتَ فيه وأحوط حولَه. وجدت فجأةً ركنًا كاملًا في مكتبتي لكُتُبِ الأطفال، كَبُر أمامي حين كنتُ ملتفةً نحو غيره من الكُتُب. عرفتِ بعدها أنّ القصّة توقّفت لأنّها لم تستطع أن تتوازن، تميل ميلانًا غريبًا بين الأجيال، تخاطب الطّفل في جوفِ إنسان راشد، ثمّ تتحدّث بلسان الرّاشد إلى الطّفل. ضعت فأضعت كلّ شيء، وانفلتت كلّ الخطط التي رسمتها وتطايرت من ملفها. 

لم أستطع بعدها الوقوف بشكل جادّ أمام نفسي لمواجهتها، عزمت عدّة مرّات على إكمال تحدّيات متعلقة بالكتابة ولم أكمل أيًّا منها، وإكمال هذا الواحد حَدَث جديد ومثير. أعرف أن انتظار الوقت المناسب للكتابة خُرافة، وأن في بعض الطّقوس أعذار واهية. ويا لِهَول ما للإنسان من انتصارات مؤجّلة، أُغلقت ملفاتها وأُهملت في أقسام التنفيذ الرّاكدة.. 

أروى بنت عبدالله 
١٣ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٦ ابريل ٢٠٢١م 

الأحد، 25 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٥) عن أبناء الصّالحين..


مِنَ الفِتَن التي شاعَ ظهورهَا تبدّل قالبِ من كان على الاستقامة فانفصل عنه، بل وعندما تحوّل عنه أصبح أكثر أهل الفجور فجورًا. كأنه يحاول بكلّ ما يستطيع أن يثبت ميله عن ذلك الطّريق. 

تجِد بينهم من رُزِقَ بأبوينِ صالحَين، أو أب صالح، أو أمّ صالحة... اتّبع خطواتهما صغيرًا، يدورُ بينهما يرتّل الآيات ويُسمّع المحفوظ. وما إن كبر قليلًا وانكشفت له الدنيا الدنيّة التي يعيشها جماعة من أصدقائه أو أفراد من محيطه، غرّه ما هم فيه من مُتع كاذبة وجمال ملفّق ولذّة معلّبةٍ مُصنّعة. 

لا يعقِلون في نشوتهم بتلك السّكرات، نِعَم الله عليهم، وحفظه لهم بصلاح أهلهم، والابتلاء الثقيل العظيم الذي يلقونه على كاهِل من شَابَ شعر رأسه قائمًا بين النّاس ناصحًا مُصلحًا. 

ويقول الواحد منهم مصعّرًا خدّه للنّاس، نعم أنا ابن الشّيخ فلان، هذا أبي، لكنّه في وادٍ قديم سحيق غير ذي زرع نافع لهذا الزّمن. وتقومُ الفتاة كاسية عارية نامصة متنمّصة متبرّجة، تتمختر وتتمايل متشبّهةً بأهل الفُجور، تمشي بين النّاس بالمنكّر وتشجّع عليه.. فإذا قيل أمّها فلانة، بُهِتَت الجموع الغفيرة، وقالت والله لو علمتها ابنتها أو ابنته، ما سمعت له كلمة ولا سألته عن شيء في الدّين. وَيَا لسوء ما يجني أبناء مثلُ هؤلاء على أنفسهم وعلى والديهم أمام ربّهم. 


والفِتنَةُ في هذا شيوعُ الفِكرة، فتنةُ يقول متناقلوها أن أبناء الصّالحين أفسد خلقِ الله. ولأنّ في المجتمعات ما يُثبتها، أصبحت تتناقَل كحقيقة محضة. والحقّ في كلّ هذا أن الله يخرج الحيّ من المَيت، كما يخرج الميت من الحيّ. فكما يخرُج فاسد من صالح يخرج صالح من فاسد، 
﴿مَنِ اهتَدى فَإِنَّما يَهتَدي لِنَفسِهِ 
وَمَن ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيها 
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى 
وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسولًا﴾.  

وبعيدًا عن تلك الصّورة... يخرج الصّالحون من منازِل الصّالحين! يخرج منهم حفظة الكتاب وحملة العِلم. فيشمخ من يرفع الرّاية بيمينه، ويحمل الكتاب بيساره. من يتحلّق حوله الطّلاب ومن يؤم بالنّاس ويخطبُ فيهم بالقولِ الحق. 

ومن كلّ ذلك يجبُ أن يكون لنَا معَ قولِ الله تعالى ﴿وَكُلُّهُم آتيهِ يَومَ القِيامَةِ فَردًا﴾ وقفة جادّة، لا نربط على أساسها استقامَةَ فردٍ بفساد آخر، وإن كان من رعيّته، ليس إخلاءً له من المسؤولية، ولكن إبعادًا لأنفسنا عن كرسي القاضي. 

كما أنّ في آيات سورةِ الكهف، صورةً قريبةً من ذات الفكرة، بين الغُلامِ الذي قُتل خشيةَ أن يرهق أبويه طغيانًا وكفرًا، وبين غلامين يتيمين في المدينة حَفِظ الله لهما كنزهما بصلاحِ أبيهما. 


لا تُبعِد هذه اللوحة من الصّور عن نفسك، بل انظر إليها، أيّ الأبناء أنت؟ وأيّ الآباء؟ وأي خَلق الله موضعًا في درب السّائرين إلى الله من أهلِ الاستقامة؟ ... 


أروى بنت عبدالله 
١٢ رمضان ١٤٤٢هـ 
٢٥ ابريل ٢٠٢١م 



السبت، 24 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٤) الحادية عشرة..


سِتّ نصوص أخرى تفصلنا عن النّهاية، لا وقت لديّ لأقف وأُقيّم النّصوص السّابقة، وأكتب النصوص الأخيرةِ بشيء من العَجلة كالمُعتاد. توقّعت أن أكتب النّصوص في وقت أبكر، لكّن كلّ شيء مضى ووقف عن الحاديةِ عشرة معظم الأيّام. 

وقتُ الجُلوسِ الأخير خلال اليوم، يسكن فيه الكَون، وأنعس إِلّا قليلًا. أغلق الأجهزة والدّفاتر، أرفع الأقلام، وأكتب النّص قبل أن أترك الهاتف لأنام. جدولُ عملٍ غريب في رمضان، الذي يُسهَر ليله وتدخل الأجساد في غيبوبةٍ بداية النّهار حتّى منتصفه. أستيقظ للسّحور، أصنع كوب قهوة كمن يقوم ليفطر في أيّامه العاديّة، تجعلني مستيقظة بعدها ومتيقظة للعمل. أعود ظهرًا للقيلولة قبل أن أقرر ما الطّبق الذي سأقدّمه اليوم. يبدأ تجهيز الفطور، نفطر، نذهب إلى المزرعة، نعود لنصلّي التّراويح، العشاء. ثمّ؟ نصل للحاديةِ عشرة. 

تبدو السّاعة بالنسبة لي مَرسَى، أُنيخ على سواحله راحلتي، أكتب بعض النّصوص عادة لكنني لم أكن أكترث بمشاركتها، أكتبها وأنام قبل أن أتمّها. شيء حانق في أحيان، وشيء أكتب فيه صورةَ اليوم والطّقس الشّعوري في أحيان أخرى. 

ولماذا شيء حانق؟
في حِوار مع الصّديقة العزيزة النّاقدة الأديبة مُزنة، كنّا نتحدّث عن بعض ما يدفعنا للعمل. فذكرنا الغَضَب، كيف يندفع الإنسان بقوّةٍ نحو وجهته.. لا يبغي من دونها حولًا. لا يرى من شغله غير ما غضب لأجله، فينجز بذلك الغضب في ساعتين ما لم ينجزه فيه أسبوعين. يبقى مشتعلًا كنار تأكل غابة، فيعضّ أوراقه ويشدّ أقلامه بين يديه. 

تفريغ الغَضب في العمل أمر جيّد، لأنه يُخلّص الإنسان من تبعاته التي تقود إلى الانتقام، ولأنه يحرّكه للعمل بسرعة. 

سأنشر النّص هكذا، دون العودةِ لما فيه، قبل أن يسقط الهاتف على وجهي...

أروى بنت عبدالله 
١١ رمضان ١٤٤٢هـ 
٢٤ ابريل ٢٠٢١م 
السّبْت ١١:٢٩م

الجمعة، 23 أبريل 2021

تحدّي الكتابة (٢٣) رسالة | إلى السُّعاة..


تتحوّل من كتابة الأفكار، إلى كتابة بعض المذكرات، ثمّ تجعلك قيمة الاستمرار تنتقل إلى كتابة اليوميات.. والغريب، أنّه لا يهُم ما تكتب، المهم ألّا تتوقف. هذه النظرة تقودنا إلى فكرةٍ منتشرة، تقولُ أن خوض الطّريق بمتعة أهم من لحظة الوصول. لكن، ماذا عن الوِجهة؟ ماذا لو كان الطّريق جحيمًا لا يُطاق؟ ولذّة الوصول التي ينتظرها السائر بصبره غاية أمله ومبلغ مناه؟ 

قد تتخبط في الطّريق وتتعب، يختلّ توازن الأشياء، بين أن تقدّم روحكِ أو عقلك أو جسدك، ستمرّ فيه بتقلّبات كبيرة وكثيرة، ستتهدم فيك أجزاء لم تتوقع أن تقوم بدونها، وسيبني الله فيكِ ما لم تتخيل امتلاكه. تسعى وتبذل كلّ ما تستطيع، لأن لك وجهةً تريدها، غاية تقودك لطريق آخر، تتابع به وفِيه سدّ ثغرك. 

يعرفُ الله أن ما يصلح لك لا يصلح لآخر، وما يصلح لغيرك لا يصلح لك، لذا جعل بين يديك الاختيار. اختر ما يقوّيك على العمل، ويشحذ همّتك. واحذر من الزهو والاعتداد بما عندك فتقعد إلا قليلًا، القعود يورث التعاسة والكآبة واليأس. 

لا تنظر إلى ما يفعله النّاس، ولا كيف يفعلونه، إلا بقدر ما يبصرّك بالصورة العامة لتجاربهم، لتبني تجربتك بوعي وبعد اطلاع. لا لتتبعهم، ولا لتدخل معهم جحورهم. ابحث عن محيط يخصّك، خُض فيه حتّى تطمئن إلى بقعةٍ صغيرة، ترسو فيها لترفع أعلامك الخاصّة المتفرّدة. 

هكذا أرى العَمل، وأخوض في الحياة بشيء من ذلك اليقين المشوب بالشكّ في بعض الأحيان. تصادفني دورات كثيرة، لكنني أعرف أي واحدة أريد وأحتاج أن أحضر. تصادفني فوائد وحسابات كثيرة، لكنني أعرف ما يدعم منها وجهتي فأتابعه. حتّى وصلت إلى مرحلةٍ لم أتوقعها، لا أمسك فيها الهاتف إلا وبين يدّي ورقة وقلم، أدون ما يمرّ عليّ من أفكار ومعلومات مهمّة، تخدم رؤيتي وتدعم رسالتي وتحثّني على البذل والعمل. 

هذه الأفعال البسيطة على قارعة الطّريق، التي لا تكترث بها ولا تظنّ بأثرها... استثمار عظيم لنفسك، يبني لك صورةً أصيلة نقيّة لها، تعرف بها حقيقتك، وتتضح في خضمها مبادئك. ستعرف بتلك الصُورة كيف تتحكم بنفسك وتُلزمها بما تريده أنت لا هي، ستعرف ما تكبح عنه وبه هوى نفسك. انتباهك وحده، سيصنع الشخصيّة التي ترى أنّك تريد أن تكونها، أو يجب أن تكونها لتحقق أهدافك، ولتستغل ما تملك من معارف وفُرص بطريقة صحيحة بعيدة عن العشوائية. 

توقّف الآن.. 

هدئ من روعك، ستطفو الأشياء على السّطح. دونَ أن تتكلّف أي جهد، ستتعجب، وسيبدو كلّ ما كان مخيفًا خيالًا غريبًا لم تعشه. ستنسى برحمةِ الله غرقك، وتعبك، وانهيارك آخر الليل من الإجهاد. ستعيشُ لذّة الوصول كأن لم تذق نصبًا. 

لن يساورك شكّ في عملك، ولا ندم على فوات ساعةِ نوم، ولا ضيق يضغط على صدرك. ستقف فجأة، لن تحاول النظر إلى الخلف، ولا الالتفات إلى أي شيء، ستقف فقط، فتتراءى لك صورة لمخلوق كان مشغولًا جدًا، لا يجد وقتًا لغير ما بين يديه من عمل.. لكنّه وبطريقةٍ ما، واقف، على منصّة ربما، يُتوّج، يُسلّم وسامًا، أو تاجًا من نُور. 

هل هذا أنتَ حقًا؟ كيف وصلت؟ لم أبلغ كلّ القمم، ولا القمّة العليّة التي أريد. لكن ماذا؟ كيف حلّقت إلى هُنا؟ 
هكذا فحسب، ستدرك أنكّ "قد تخيب مع الأسباب القويّة، وتمنح مع سبب ضعيف. كلّ ذلك لتعلم أن الأسباب لا تستقل وحدها بمنحك أو منعك، إنما هي إرادة الله وحده لا شريك له". 


أروى بنت عبدالله 
١٠ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٣ ابريل ٢٠٢١م 

الخميس، 22 أبريل 2021

تحدي الكتابة (٢٢) أحكام وأرزاق..

يجب ألّا يمتنع الإنسان عن مشاركة ما يُحبّ بسبب نفخِ النّاس لإنسان آخر يعمل في نفس المجال. تزعجني فكرةُ أن يوضع اسمك في منافسةٍ لست فيها فعليًا، تضعك ثم تصبّ عليك الأحكام صبًّا. لماذا يقول البعض ما لم يُطلب منهم وما لم يُسألوا عنه؟ 


يمكن أن يعمل عشرة في نفس المجال، ويكتب الله لجميعهم نجاحًا باهرًا يليق بعمل كلّ منهم. والهواية ليست محصورةً على فرد دون غيره. أمقت أن يعيش النّاس حياتهم بالمقارنات، ألا يشعروا بالرضا ويسخطوا حين تصيب غيرهم حسنة أو رزق، وأن يتلذذوا بالشماتة واستعراض أرزاقهم كأنهم كسبوها بقوّتهم. وأسوأ ما في ذلك العيش، ألا يهنأ الإنسان ولا يستقر شعوره تجاه الآخر. فتجده في حرب باردة غريبة غبية، تغذّيها أفكاره ويقتات منها لأذيّة الآخر. 


حتّى في المِعرفة، يجب ألّا يزهد الإنسان بما عنده، وألّا يتواضع تواضعًا يضرّه فيما استخلف فيه من علم. وأتذكّر هنا عبارة يرددها أستاذ القانون الأوغندي، الذي درّسني أهمّ مقرر قانوني في حياتي الأكاديمية، الحوكمة.. ذكر لنا مرةً فكرةَ أحلامِ المنام، كلنا ننام ونحلم، لكن لكل منا حلم لا يراه غيره، ولا يعرف تفاصيله غيره، ولا يمكن مطلقًا لأي مخلوق معرفته. هكذا الأفكار، لا يراها النّاس كما تراها، ولا يعرفون تفاصيلها في عقلك أو مخيلتك، ولا يمكن لهم مطلقًا معرفة أي شيء ما لم تقله. هذه الفكرةُ مريحة وعميقة، مهما تكررت بعض المشاريع، سيلقي الله في فؤادَ النّاس القَبولَ لأحدٍ دونَ آخر. يكتب لكل مشروع جمهوره المناسب، ولكل فكرة عملاءها المناسبين، ولكل قائد فريقه المناسب. 

المهم من كلّ ذلك، أن يؤمن كلّ فرد بأن الله أعطاه ما لم يعط أحدًا من العالمين. أن يستشعر تسخير الله لهذا الكون بما فيه له. أن يدرك قيمة الفكرة، والكلمة والمعلومة، وألا يحقرها ولا يحقر نفسه. كما يعرف الآخرون ما لا تعرفه وتراه نقيصةً في نفسك، أنتَ تعرف ما لا يعرفونه! منحك الله ما يناسبك ويميّزك وحدك، ما يعينك على المضي في السبيل الذي أراده لك أنت. 

أروى بنت عبدالله 
٨ رمضان ١٤٤٢هـ
٢٢ ابريل ٢٠٢١م