قصدت مكتبة منزلنا باحثةً بين كتبي التي خبأتها هناك عن أوراق الأوريجامي الصغيرة الخاصّةَ بصناعة النّجوم. لمحت بينها دفترًا أبيضَ اللون، أعرفه جيدًا، فيه صورة بتلات ورد جوري أحمر وبضع كلمات بالإنجليزية.. الدفاتر في حياتي آلات لا يستطيع أبرع المخترعين الإتيان بمثلها، إنّها وسيلة للعودةِ بالزّمن.. ينتقل معها الجسد لا الرّوح فقط!
يعود تاريخ ذلك الدفتر حسب المكتوب إلى أواخر شهر ذي الحجة من سنة ١٤٢٨ من الهجرة النّبوية الشريفة، أي مطلع يناير ٢٠٠٨م. كان يمثّل لي دفتر الوصول القوّي نحو الاتصال الحقيقي بعلوم القرآن، دفتر الوصول الذي سبقه عامان من النزوح، من الهجرة في سبيل الله، من الغربةِ التي كانت رغم شدّتها لطيفة برحمةِ الله وكرمه لأنّه معنا ولأنّه أكرمنا بالقرآن صاحبًا قبلها وأثنائها وبعدها. أتأمّل أبيات الشّافعي التي كتبتها على طبقة الدفتر "أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ..."، والفراشة التي رسمتها بعد كتابة اسمي بالقلم الأخضر اللّامع.. والنصيحة التي كتبتها أمي بخطّها "الثقةُ بالله أزكى أمل، والتوكّل عليه أوفى عمل".. يا إلهي كم كبرت تلك الطفلة وكم عامًا مرّ منذ ذلك الحين!
تذكّرت في الأثناء جملةً أسمعها من هاجر كثيرًا، تقول "السّير في دربِ الوصول وصول"، لزمتني خمسة عشر عامًا لأدرك أن كلّ ذلك السّير كان وصولًا! أقلّب صفحات الدفتر وأتذكّر المعلمات اللاتي قصدت حلقاتهن في تلك الحقبة الزمنيّة، أتذكر المعلمة التي طلبت منّا كتابة تفسير جزءٍ من آية في سورةِ الجمعة "كمثَلِ الحمارِ يحمِلُ أسفارا"، وأقفّ عند ما خطّته يداي بدهشةِ الذي كان قد رأى الحقيقة وعاش بها منذ زمن بعيد...
أعود من هناك سريعًا، مستذكرةً اللحظة التي كنت أنتظر فيها عبير بعد صلاة ظهر يوم الخميس.. لنتوجه إلى كلية الآداب حيث الحفل الختامي لنادي إتقان التلاوة. كنت أقلّب هاتفي بحثًا عن مقطع صوتي، فإذا بي أصطدم بتسجيلٍ لي كنت أنشد فيه أبياتًا كتبتها عن جمعيات التحفيظ! أتذكّر أنني كتبتها بحزنِ المشتاق إلى نعيم الحلقات اليومية التي كنّا نتنقّل فيها أيام ابتعاث أبي إلى الأردن، حلقة صباحية من السادسة والنصف مع ماما خلود في المدرسة، ثمّ حلقات الظهيرةِ مع ماما ماجدة.. وحلقات أسبوعية كلّ يوم سبت في مركز الهدى، وحلقات أخرى مع مس مروة في مركز اليرموك فرع الجمعية الرئيس بإربد.. وحلقات الصيف المكثفة مع خالتو هدى أم محمد وخالتو المديرة أم ناصر..
مضت خمس سنوات على تلك الأبيات! والآن؟
أتأمّل فتيات نادينا المحببّ بعينِ العبد الذي يسأل الله أن يتقبّل سعيه ويباركه، وأن يثبّت رفاقه ويمنّ عليهم بالمحبّة التي أوجبها لعباده الذين يجلسون في سبيله يتدارسون الآي ويتعاهدونه بينهم..
للهِ جِهادُ فَرَح وجهادُ عَبِير وجِهادُ نعْمَة، للهِ انتظارهُنّ وشرحُهُن وتركيزهُن لتصحيح خطأ ومعلومةٍ وضبطِ مخرَج حَرف. للهِ سَعيُ المشرفات وتطوعهنّ وإحسانهنّ، للهِ ثباتُ الطّالبات وصبرهنّ ومحاولاتهنّ. للهِ كلّ ذلك التكرار، ما أصاب منه وما لم يصب. للهِ التعتعة والمشقّة وبحّة الصّوت بعد ساعاتِ التدريب.
للهِ اجتماعنا على شيء من علوم القرآنِ فجرًا وضحى، ولله ضحكاتنا قبلَ صلاةِ الظّهر. للهِ صوتُ عَبيرة الآسر، وصوتُ زُهد وصوتُ أفنان الهادئ، وللهِ صوتُ آلاء ومشاكسات فاطمة لَهَا، للهِ صوتُ حبيبة الذي يذكرني بصديقتي عُهُود، للهِ صوتُ هُدى السبّاقة في رياضِ الذِّكر تتلو الآي وتقرأ الأذكار. للهِ صوتُ شيماء الذي نُحبّ، وللهِ أصواتُ الأحبّة في حلقاتِ يوم الجمعة الاستثنائية. للهِ صوتُ أسماء الذي يفتح أعيننا على خُضرةِ الخَريفِ حولهَا، وصوتُ الزّهراءِ الذي يجعلنا لا ننسى ما تقولُ كلّما وقفت على آيةٍ تتدبّرها.
للهِ صوت عفراء المثابرة للهِ سعيها لساعةٍ نتآزرُ فيها لتسميع الوِردِ اليوميّ، وللهِ البسماتُ اللطيفةُ التي يرسلها بوجودِ هادِي الصّغير حولها، يتساءل عن حفظنا ويلتقط الكلمات فيسأل ماذا تعني كلمة ركيك؟ ركيك يا هادي تعني أننا لم نرضى بالوقف الاضطراري الذي يحدثه التفكير في كلمةٍ وسط الآي. وللهِ صوتُ لميس نهايةَ الأسبوع تترقب أصواتنا لمراجعةِ حفظ الأسبوع.
كيف كنت تتوجس خيفةً في أحيان، وتنطلق معهم في الحديث أحيانًا أخرى.. وكلما مضى يوم، وجدت فيهم حُسن خلق وخفةً في النّفس، بل وخفة دمٍ نبيلة. تجدُ في كثيرٍ منهم لُطفًا بالغًا، وفِي جماعةٍ منهم عذوبةً متزنة، وفِي الهادئِينَ عملًا دؤوبًا وجهادًا خفيّا.
يكبُرُ المشهد وتمتدّ الصّورة بكم جميعًا، يبارك الله في الجَمع ويتحلّق الأصحاب في الاستراحة والمصلى والسّطح. تتّسِعُ النّظرةُ ويخشع القلب متأملًا الطّريق.. سابحًا في السماء المرفوعةِ بغير عمَدَ، والجبال بأكنانها، والأرضِ! الأرض التي يخطو عليها..
أروى بنت عبدالله
أرشيف ١٤٤٣هـ
نصّ بين: يوليو ٢٠٢١ - يناير ٢٠٢٢م
لله كل البركات الممتدة من الدفتر الأبيض إلى ما شاء الله 💙
ردحذفياربّنا الوليّ 💙
حذفلله درّكِ♥️
ردحذف♥️
حذفراقت لي بشدة حروفك... بل نقلتني إلى عالم آخر. بارك الله حرفكِ رِواء 🌧️💞
ردحذفياربّ وحروفكِ فاطم 💗
حذف