عندما تنظر إلى الحياةِ بعينِ قلبك الذي يرتع في النّعيم، وتحاول بتلك النظرةِ فهم الوجودِ حولك وتلمُّسَ أثره في حياتك. عنِ اليوم الذي شاركتنا فِيهِ إبتسام مشهدًا رأته بعينِ قلبها، بينما كانت خارجةً مع مدربتها في رحلة تعلّم قيادة السّيارة أواخر يوليو الفائت.
أدركت من تجربتي قبلها، الوسع الممتدّ الذي تغطّيه أعيننا أثناء القيادة في مساحات وطُرُق شاسعة مفتوحة على الحياة. وأتذكّر كيف كانت بيبي زيانة -مدربتي- تضحّك عليّ في كثير من الأحيان لأنني لا أنظر إليها عندما تتحدّثُ إليّ أثناء القيادة. وهو ما قالته إبتسام تمامًا عن بداية تدريبها، كنتُ أرى نقطة الشارع أمامي فقط، أُركِّز عيناي طوال ساعةِ التدريب مستقيمة دون أي التفات لليمين أو اليسار. حتى قالت لها المدربة يومًا: يا ابنتي وسّعي نظركِ!
كان نظر المدرّبة واسعًا ممتدًا ومبهرًا، كانت تستطيع رؤية كلّ شيء.. يمينًا، يسارًا، حركة الحياة، السّماء، الجبال، وكلّ شيء! ترى أشجار الطّريق والنّاس. وأنا في المقابل لا أرى سوى شارع، نقطة واحدة في ذلك الشّارع!
كيف رأته إبتسام بعد ذلك يا ترى؟
لم تكُن لتربطه بشيء غير طريق القرآن ونحن في خضم مرابطةٍ جماعيّةٍ أيّامَ الدّورةِ المكثفة العاشرة. كانت تتخيّل طريق القرآن، طريق مستقيم واضح، وأنّها تركّز على الشارع الذي تسير عليه، دونَ أي اكتراث بالأرض حوله، قاحلة بلا زروع وبشر؟ لا يهمّ، الطّريق أمامي وسأمضي فيه. بدى المشهد جافًا جدًا، وتراءت لَهَا صحراء، لا تشعر فيها بالحياة.
بعد مقارنةِ ما كانت تراه المدربة في طريق عام بسيط، وبينَ الأرضِ القاحلةِ التي نحبس أنفسنا فيها متوجسين تارةً وساعين تاراتٍ أخرى دون شعور نحو هدف جليٍّ نظنّ أن الوصولَ في بلوغِهِ فحسب.. تصادفنا في الطّريق لائحة حمراء دائرية أن: قِفْ!
عندنا ترى الأشياء، ستحبّ الأماكن. ستحفظها، وتدلّ مكان الشجرةِ المزهرة، ستحبّ المرور عندها وستفرح بها كلّ مرّة. لا تمشِ وحيدًا يا صديق، تمهّل قارِب خُطاك، انظر حولك، اغرس فسيلة، واسقِ شجرة، تأمّلها، تمايلَ أغصانها، صوتَ حفيفها، والنّسمةَ الحانيّة التي يبعثها الله وأنتَ جالس تحت ظلالها.
ما أشجار الطّريق يا إبتسام؟
-إنّهم صحب القرآن يا أختي..
سيحفّكِ الله برحمته وفضله وكرمه بِهِم، لا تمرّي عليهم مرورًا عابرًا وعيناكِ على الطّريق فحسب. هُمُ الأشجار التي ستقوينَ بوجودها حدائقَ في ساحاتِ قلبك..
امشي بجوارهنّ، قفي واستظلي بهنّ، اسقيهنّ، أعطيهنّ، ساعديهنّ، وانتشليهنّ إذا داهمتهنّ عاصفة تكسر أغصانهنّ. كلي من ثمارهنّ، من وقفاتهنّ على الآي، من تدبرهنّ ومن فكرهنّ، من جهادهنّ وصبرهنّ، تعلمي من مواقفهنّ في الحياةِ وقِفِي معهنّ. وكلّما بعث الله في تربةِ قلبكِ أُلفةً لفقيرةٍ سائرةٍ في الطّريق، مدّي لَهَا غُصنًا مخضرًّا من الرّحابِ التي تنعمينَ بها، دُلّيها على البساتين في قلبها، بتشابكِ أغصانِ كلّ تلك الأشجار ييسّر الله الدّرب للسائرِين نحوه، بكِ، بكُما، يتولّاكِ فيمن تولّى -عزوجل-، ويجعلكِ سلمًا لأوليائه الصّالحين.
أتفرِّط؟ أتزهدُ والله ساقَك نحوهم وساقهم نحوك؟ تسَير الدّرب بصحبةِ أستاذ، ورفيق صادق، وحافظ متقن، وأخٍ وزير.. وَيَا لبهاء السّير ومعك في الطّريق صاحبٌ صالح لا تريد أن تتهاون حتّى لا تفقد مجالسته، وما أسمى أن تجدّ حولكَ عشرةَ أصحابٍ لا تكسلُ حتّى لا يخلو محيطك منهم، وما أسعدَ اللحظةَ التي ترى فيها أربعين فتاةً هنا وهناك، يسرن بكلّ جدّ نحو هدف واحد. وما ذلك الهدفُ يا تُرى؟ ما الذي يجمع بينهن هكذا بكلّ هذا الجدّ والحِرص؟ إنّه استعدادٌ ليومِ صُعُودِ الدّرجات نحو العلياء، لليومِ الذي يقول فيه مَلك الملك لك: اقرأ! فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها... اقرأ...
بهذا أعادتني إبتسام لتأمّل الطّريق مرّاتٍ متكررة، في كلّ الصّباحاتِ التي قصدتُ فيها الجامعة، كنت أتأمّل الأشجار الكثيفة على جانبي الطّريق الذي أسلكه، أرى في كلّها صحبي، في أغصانها المتشابكة، وفي ظلالها الوارفة، في امتدادها على طول الدّرب، في الفراشات الصغيرةِ بينها، وفي الطّيورِ المحلِّقةِ حولها. ياربّ صحبي!
أصِلُ إلى الجامعةِ فألتقي بمن يرزقني الله لقاءه، هكذا دونَ مواعيد مسبقة، يسوقنا الله واحدة تلو الأخرى، المرّة بعد المرّة، واليومَ بعد اليوم، ...
أُقفل مغادرةً إلى مقرّ العمل، ثمّ منه عائدةً إلى المنزل، أتأمّل تمايل النّخيلِ الفَاتن أمام أمواجِ الشاطئ وألوانِ الغروب بعد شروقِ الرّوحِ ذاك. لطالما قُلت "من لا يحبّ النّخيل، لا يحبّ الحياة"، أُديم النّظر فيها.. بعينِ المُحِبّ الذي عَرَفَ ربّه من حركات وسكنات مخلوقاته، عَرَفه بشدو القلبِ الذي نجا من المزالق متمسكًا بخيط ممتدٍّ من السّماءِ نحوه...
مهلًا، كيف؟ كيف تعرفينه بذلك؟ أروى ماذا تقولين؟
-"من الحُبِّ يبدأ فهمُ الوُجودِ" يا صديقتي!
ماذا؟
أروى بنت عبدالله
٢ جمادى الثاني ١٤٤٣هـ
٦ يناير ٢٠٢٢م الأربعاء ١٢:١٠ص.
_________
-هذا الحوار مِن فكرة تشاركناها، لم يحصل حقيقةً،
لكنّه حاصِلٌ روحًا ومعنًى💙🌿-
يا الله🥺♥️♥️♥️
ردحذفاللهم حُبك وحُب من يُحبك🌟
ياربّ هذه النّجمة المُضيئة ♥️⭐️
حذف