هل ركضت نحو أصحابك يومًا فوجدتهم متحلّقين حول كتاب الله يتلونه ويتدارسونه بينهم؟ يمدّ إليك صديقك الحافظ مصحفه الأخضر لتقرأ بعينيك عن قلبه، يسحبك رفيق لتتدبّرا آية قبل أن تفترق بكما طرق المساكن، يذكّرك صاحب بقولك إن دخلت جنّتك القرآنية المتمثلة في المربع الضيّق الصّغير في استراحة التربية، المربع الواسع الكبير في قلوبنا التي رُزقت حبّ القرآن وصحبه. ما شاء الله لا قوّةَ إلا بالله!
تستفتح كلّ حديثٍ قرآني بقولِ المعلّم والقائد الأعظم، رسول الله الحبيب ﷺ "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده"، ويقول الله -عزّ وجل- في الحديث القدسي: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتباذلينَ فيّ والمتزاورينَ فيّ والمتجالسين فيّ".
تقوم وتجلس في كلّ مرّة وحولك حسيس من لهج القلوب بالدعاء.. تمامًا كالنّداء الخفي لسيدنا زكريا عليه السلام، خفي رغم استصراخ قلبِهِ العميق وصداه الممتدّ المحفوظ.. ياربّ! نسألك تلك المحبّة، ياربّ حُبّك وحُبّ من يحبّك وحُبّ كلّ عمل يقربنا إليك، ويهدينا إليك. ياربّ بركات الحلقات من سكينة وطمأنينة ورحمات تغشانا وملائكة تحفّنا، وملأ خير من هذا الملأ تذكرنا عنده.
ما الصّوت الذي يراودك عن نفسك من قلبك ويدفعك لتخطو كلّ تلك الخطى مسارعًا نحو مكانٍ ما؟ أغيرَ المحبّةِ التي أوثقت في اللهُ كلّ عراها؟ نحو محرابِ الصّحبِ الذين إذا خرجت معهم في طريق تذكّرتم هجرة رسول الله، وإذا افترقت بكم الطرق تسائلتم عن حال أهلّ الصفة، ورأيتم في أنفسكم أنصارًا بعد أن كنتم مهاجرين، دوائر مستمرة من السّعي، وخطوات تفتح بعضها أبواب بعض.
ومعهم، في لحظة استثنائية ستسمع ذلك الصّوت في قلبك، ينادي، يناديك، "يا طَيبةُ ضميني". تنطلق، مثقلًا تسأل الله الخفة، متعبًا تسأله الراحة، تتحلّقونَ عشية اليوم، ترددون أذكار المساء بصوت واحد، ولكلّ قلب صوته المتفرد بما فيه من نوايا. ياربّ اجعل لنا عندك صوتًا معروفًا من عبد معروف.. ياربّ. من الحلقةِ التي نوينا فيها سفرًا إلى روضةِ الحبيب ﷺ، وتحلّقنا فيها أرواحًا مشتاقة، خاشعينَ نسألك أن تسمعنا الحَق وتستعلمنا فيه، أن تختارنا لمقامٍ عظيم، وأن ترزقنا لباس التّقوى وتعيننا بقوّتكِ للمضيّ والعَمل.
تمضي بكم الأيّام، ثُمَّ..
تُقبِل نحو تلك الرّبوع وتعرِف أن لكَ فيها أحبّة، قضيت بينهم أجمل مواعيدك الجامعية، كفكفت حولهم شيئًا من أساك، وسِرت إليهم تشدّ الوثاق يدًا بيد مذكّرًا: الطّريق هكذا يا رِفاق لابدّ من هذا الجهاد، احتسبوا أجره.. لله لله. ستعرِف بحُب الله نفسك، عندما ينشر أنواره في صدرك بكلّ أولئك القرناء، بكلّ الأحبّةِ الذين اختار الله صدورهم أوعيةً لكلامه. يحفظك الله بهم، بتذكيرهم لك، بأكتافهم الدافئة حولك إذا اشتدّ صقيع أطرافك، سيقفون جدارًا منيعًا حول الشعلة في قلبكِ لئلا يطفئها عارض. سيظللون أرضك ويذكّرونك بسورتي البقرة وآل عِمران، أتقنهما فهما غمامتاك يوم تشتدّ الأهوال.
ستبدأ رحلتك في المعرفة خطوة خطوة، لن تدرك من الخطوة الأولى، ولا من الثانية ربما. ستعيش الرحلة مدهوشًا ومشدوهًا نحو الجبل مرّة والبحر أخرى. ستعرف الله الظاهر عندما تخفى عليك الأشياء، وتعرفه الباطن حين يُظهر لك شيئًا صغيرًا تهتدي به رغم كل ما استتر عنك. ستعرفه لحظة تلفح وجهك رياح تحمل ذرات تراب تغمض على إثرها عينيك، حين تدرك ضعفك. ستعرفه حين تهبّ نفحات السّحر على الدّموع المنسكبة على خدّيك.
ستعرفه رافعًا عينيك نحو السّمَاء، ناظرًا لكلّ محبوكٍ فيها، للسحابات السائرة، والنّجوم اللامعة، والقطرات المتناثرة، للظلمة الدّامسة وأشعة الشمس الممتدّة بسطوع بارِق تحاول بتتبعه استيعاب جمال الزّهر في حديقتك، وناميات الشّجر في رصيف شارعك. ستخطو بين أشجار حديقة العلوم كمن يركب قطارًا يسير بهِ بين سهولٍ لا يعرِف لها انتهاءً، ثمّ يتأمّلها من السطح لحظات الغروب فيكتشف عالمًا علويًا غَير الذي رآه وهو سائر. سيلمح جبالًا كثيرة، بعيدة وقريبة. سيطاوِل النّخيل والأشجار التي لطالما استظلّ بها وشرِب تحتها ماءً زلالًا من معِين الآي، يروي بهِ أرض قلبه مرّة ويحرُث مرّات أُخر.
بتلك التأمّلات الصغيرة في المخلوقات، سيتمكّن الحُب من قلبك. ستتعجب من سهولة الكراهية والبغضاء في حياة الآخرين، سترى تتطاير أرواحهم مع كلّ عاصفة، وستسمع زفير غضبهم إذا مرّت أمامهم قطة. أمّا الحُب فيحتاجَ أنفسًا عظيمة، إذ ترجِع إليه أُصول كثير من الأخلاق الفاضلة. تعاونك مع الآخرين نتيجة للمحبّة، الإيثار نتيجة للمحبة، النّصح نتيجة سببها محبّة الآخرين، البرّ، المشاركة في السراء والضراء، كلّها من منبع المحبّة. وكم ربط رسولنا الحبيب ﷺ المحبّةِ بالإيمان قولًا وعملًا..
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
"لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحب إليه من والده وولده والنَّاس أجمعين".
"من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليحسن إلى جاره".
"والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا".
"ثلاثٌ من كُن فيه وجَدَ بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحبّ الرجل لا يحبه إلا لله".
"رجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه".
أترى كيف يخبر رسولنا الحبيب ﷺ أن محبّة الله سببها محبة النّاس؟ أترى كيف ربطت محبّتك وإحسانك للآخرين بالإيمان بهِ ﷻ؟ أترى كيف أنّك بالمحبّة في الله ولله وحده تكون مع من أحببت تحت ظلال العرش؟ انظر في سيرته المستنيرة ﷺ لتتعلّم محبّة الآخرين، وتحلّى بها. تحلّى..
ستعرف الله بكلّ ذلك، ستعرفه كلما اقتربت، إذا أحببت ما يحبّه وأبغضت ما يبغضه، إذا أحببت أحبّ خلقه إليه وتخلّقت بخلقه، إذا عرفته مما علّمك إياه في رسوله المصطفى الحبيب ﷺ، حين تسعى لتكون كخَير البشر وتبحث في حياته عن معنى أن تعيش لله وأنّ الله وجهة وجهك حيثما كنت، ستدرك أنك مهما قلّبت بصرك بين السماء والأرض، لن تسير مستقيمًا إلا إذا ولّيت قلبك شَطر الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
ستنجو حينها، من كلّ ما يحاول غمسك في الدنيا دون اكتراث أو بصيرة، ستنجو من إبليس وأعوانه، ستنجو من كلّ الشّرور والمكائد، ستصفو لك الرؤية، ستبصر بعينٍ تلمع فيها النّجوم صُبح مساء، ستنجلي المخاوف كلّها، وتُمنَح صديقًا تنسكب نفسه في نفسك ونفسك في نفسه، ستدرك معنى السّرور كما تدرك معنى الألم. ستلمس النّدى في الأوراقِ الخُضرِ مبتسمًا لأنّك ترى فيه الأمان الذي يتلألأ في بساتين قلبك.
أبتسمت الآن يا صديق؟ هل داعب خيال لطيف عينيك وأنت تقرأ؟ هل رفرفت فراشات زُرق بين حناياك؟
هكذا تمامًا! ستطِيرُ نحو الهُدى والرّشد بأجنحةِ الحُبّ وحده وستنجو، إذا أدركت أن الذي مدّ لك خيط النّور هو الله الذي كتب عليك ذلك الوجع، هو الذي أبكاك وأضحكك، ومنحك ومنعك، وبسط وقبض.. إذا عرفته حقًا وأحببته في كلّ تلك اللحظات فقد نجوت! إذا جُبت كلّ المحطات في حياتك وحُبّ الله في قلبك غضّ نديّ، ستفهم.
إذا أدركت معنى أنّك إليه راجع، ستتلذذّ فكرة الرجوع إليه بعد كلّ منعطف تنسى فيه حقيقة وجودك.. أنت هنا لأنّه يحبّك، أنت ملحظ عنايته، وقد أحاطك بقومٍ يحبّهم، لأنّه يحبّك.
أقولُ هذا ولستُ سوى عبد فقير، يتبدّى له جهله كلّما أبصر، ويدرك ضعفه كلّما ضاعف جهده. وليس هنا إلا ليذكّرك: إذا أنار الله لك الدّروب فلا تظنّ نفسك بصيرًا، وحين يعيدك إليه كلما ضللت فلا تغترّ بكونك منيبًا، ولمّا ينطقك بالحكمة قبل أن تتلعثَم حروفك فلا تحسب نفسك حكيمًا.. انتبه لتداركه لك برحمته. أنت عبد ضعيف لن تدرك المراد بالأسباب، ولا المنال بالسّعي ولن تُؤتى بقلبك المشغول!
ينتشلك الله بلطفه ورحمته مرّة بعد مرّة، يوقظك بالآيات لتستقيم، ويحفّك بالصّالحين لتذكره كثيرًا وتسبّحه كثيرًا. اقصده مخبتًا.. بأحمالِكَ كلّها.. قِف كسيرًا ببابه، أنِخ رحلك في رحابه، ارشف من بحرِ جُوده، تذلل له وحده، وتدلل. تدلّل.
أروى بنت عبدالله
٢٦ جمادى الثاني ١٤٤٣هـ
٢٩ يناير ٢٠٢٢م
١٠:٠٠م السّبْت.
ياربّ أصواتًا تغض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ياربّ قلوبًا تمتحن وتخلص للتقوى
ردحذفياربّ.. صلى الله عليه وسلم 💙🌱
حذفالله الله ، كلمات بلسم على القلب ،ياااارب ننال حب الله ورضاه عنا ❤️
ردحذف