مرحبًا وحُبًا أصدقائي،
استلقيت مساء يوم الأمس رغمًا عنّي، بجسد منهك لا يكاد يتذكّر كيف مرّ يومه ووصل إلى الساعة الحادية عشرة، حاولت رفع الهاتف لأكتب بضع كلمات، فلم أستطع حمله خشية أن يسقط على وجهي، ثمّ التفت يسارًا أبحث بعينيّ عن سماعتي الصغيرة لأستمع إلى رسائل رفيقتي هاجر، لكن يدي لم تكن لتمتدّ طويلًا لتصل إلى الطاولة متناولةً السماعة، لم أستطع فعل شيء. تأمّلت الهاتف المستلقي ببطارية قليلة جدًا قد ينطفئ على إثرها قبل أن يرنّ منبه الفجر على الأرجح، لا بأس يوقظني الله بمن يسخّر. أغمضت عيني، وانتبهت بعد نصف ساعة على صوت الكلمات تكتب نفسها في ذاكرتي وأنا شبه نائمة، والآيتان الأخيرتان من سورةِ الحديد ما زالتا تترددان في أذني بصدى صوتِ عبير.
وفي خضمّ كلّ ما قبل لحظةِ نهاية اليوم تلك، أخوض في الحياة باحثةً عن فكرة ومتأمّلةً في معنًى وسابحةً في ملكوت آلاء الله. أتأمّل خطواتي المتسارعة في ممراتِ كليّة الحقوق، وخطواتي المتسابقة بين كلية التربية وكلية العلوم، وخطواتي الهادئة بين وحدات المجمع الخامس قاصدةً محرابَ الحافظةِ الحبيبة. وفي معظم الأيّام، أتأمّل سعي النّاسِ الحثيث صباحَ كلّ يوم، أفسح الطّريق لمن يحمل في سيارته أطفالًا، وأتجاوز اللاهين بهواتفهم، وأرى مجازًا في العيون المشرّعةِ تشريعًا وبين يديها كوب قهوة أو شاي رباعيات محمود درويش..
"أرى ما أريد من النّاس:
رغبتهم في الحنين إلى أي شيء
تباطؤهم في الذهاب إلى شغلهم
وسرعتهم في الرّجوع إلى أهلهم".
أدخل مكتبي وأتأمّل النّافذة بحثًا عن عائلةِ الحمامِ التي تسكن ثقبًا في المبنى المجاوِر، لمَ تأتِ الحمامة منذ بدايةِ الأسبوع.. هل طُرِدت مؤنستي من عُشِّها؟ عشّها؟ ألمحَ أحجارًا وآثار اسمنت حديث... غادرَ الحمام الزّاجل النّوافِذ، ولَن يواسيني مشهد الحمامةِ التي تسعى قُبيلَ ظهيرة كلّ يوم بين واجهةِ المبنى وساحتِهِ الخلفية عشراتِ المرّات ولا تعود إلا بشيء صغير لا يكاد يرى مقارنةً بحجم منقارها الصّغير.
تساءلتُ مرّةً -قبل ثلاث سنوات- في تويتر قائلةً: كنت أفكر في اقتباس "تهونُ علينا في المعالي نفوسنا"، لأي درجة يمكن للإنسان أن يضحي برغبات نفسه وراحة جسده وصحته وقربه من أهله حتى يصل للعلا حسب مفهومه؟
وبقيت أسعى مهونةً على نفسي الرّحلة بما بعدها، فيأتي ما بعدها ولا يتغيّر من النّصب شيء سوى أنّه ينصب في اتجاه آخر وبطرق مختلفة تغيّر علينا وتيرة الحياة فلا نضجر. لكننا نستمر... مؤمنين بأنّ كلّ الخطوات الصغيرة ستكبر!
أتذكّر في الأثناء ومع ازدحام خطوط النهاية مطلع هذا الشّهر -بدءًا من ختام مقررات الماجستير وانتهاءً بختامِ سنتي الأولى في عالمِ المحاماةِ العجيب- أنني شرعتُ قبل عامٍ في قراءةِ كتاب نادي الخامسةِ صباحًا لروبن شارما. أوه! نادي الخامسة صباحًا؟
-قصاصة من الأرشيف-
لطالما بدأتْ صباحاتنا بعد الفجرِ بأصواتِ طيورِ الحيّ ورِفاق الحلقات وديك الجيران بصياحِهِ المُزعج. وقت تسبّح فيه المخلوقات كلّها، وتقومُ أنتَ مع ناديك المفضل لتُسبّح الله وتذكره وتشكره، مع مجموعةٍ من الرّفاق. "هل في الدُنا شيءٌ يُعادِلُ بُكرةً؟ جرّب -فديتُكَ- نشوَةَ المستبكِرِ". أتذكر هذه الأسابيع أحدَ أشهرِ كُتُب رُوبن شارما الأخيرة (كتاب: نادي الخامسةِ صباحًا)، وأتساءل إذا ما كان يعرِفُ عن نادي الثالثةِ صباحًا! لابدّ أن الشخص العظيم والمتفرد والسبّاق في الميادين الذي يحاول صناعته وتدريبه بذلك الكتاب، سيصل.
لكن، ماذا عن الذي يسبق أولئك العظماء، الذين يراهم العالم أفذاذًا في سباقات الدّنيا، بساعتَينِ! وإضافةً إلى الوقت، فهو يسبقهُمُ وبين يديه كتابٌ مُبين، ويحاول جاهدًا في ذلك الوقت الذهبي الثّمين أن يملأ قلبه نورًا منه. يقومُ من نومِهِ مُتعبًا فيتقوّى به، ظمآنًا فيرتوي منه، الكون حوله مظلم فيستدلُّ بنورِه، وموحِشٌ فيأنَس بكلامِ ربّه فيه. مَن أعظم من هذا عملًا ومنزلةً إذا أخلَص؟ ومن يسبِقُهُ في الميادينِ كلّها وقد صَدَق؟
"للهِ درُّ الناهضينِ مُبكرًا من لذّة النّوم العمِيقِ المُسكِرِ".
لله درّ الرِفاقِ الذين تقطع أصواتُهُم تلك اللذّة المسكرة، قاصدينَ مولاهُم وكلّهم طمَعٌ فيما عندَهُ من أسمى لذائذِ النّعِيم. لله صوتُ الحافظاتِ المتفكّر في النّور لحظات القيامِ الأولى، وأصوات الذاكراتِ بعد صلاةِ الفَجر. للهِ صوتُ منبه الهاتفِ الذي يدوي في أذاننا خشيةَ أن يسلو منبه القَلب فتفوته المجالس التي تحفها الملائكة، للهِ الاتصالات الكثيرةُ المتكررةُ التي نتبادلهَا خشيةَ أن تفوّت واحدةٌ منّا الحلقة. للهِ صوتُنا المتحشرجُ أوَّل الصّباح، وأكواب الماء السّاخن تلفّ بيننا ليصفو فنصحح أخطائنا في التلاوة.
ومعَ كلّ ذلك التأمُّلِ السّاكِنِ لأصواتِ الرّفاق، تتداخلُ أصواتُ الحياة الواقعيّة، لتذكّرنا أننا لسنا في نفسِ المجلس ولا في نفسِ البقعةِ الجغرافيّة.
—————
تذكّرت تلك القصاصة من أرشيف الملاحظات التي كنت أكتبها بين الفينةِ والأخرى أيّام الدورة المكثفة العاشرة. إن كان في الأيّام استشعار دائم للُطفِ الله الذي ملأ أوقاتنا بذكره، وغمرنا بكرمه، وأنعم علينا بمعاهدةِ كلامه والسّعي لإتقانِهِ تلاوةً وحفظًا وعملًا بإذنه، ورزقنا السير في طريقِ العلم النافع في مختلف المجالات، نسأله به العمل المتقبل والرزق الحلال الطيّب.. تطيب لنا الحياة ويهونُ حقًا كلّ ما نبذل، لأنّ العلياء التي نراها لن تكون علوًا في الأرض بل فردوسًا في السماء تهون دونه نفوسنا.
بمثل هذا يدرك المرء معنى أنّه اختارَ دربَ الهُدى، وأنّه يريد أن يمنحَهُ الله المزيد. يومَ يستلذّ المشقّة التي تُعييه آخر اليوم، ويتَرَقّبُ لحظاتِ المسرّةِ التي تُشعِلُ فِيهِ جذوةَ حَثِّ الخُطى. فيفرح بما آتاه الله ويسأله الرّضى، "حمدَ الرّضا بحكمه لليقين بحكمته". ياربّ الذين رضيت عنهم ورضوا عنك..
أروى بنت عبدالله
٩ جمادى الأول ١٤٤٣ هـ
١٤ ديسمبر ٢٠٢١م
-أرشيف يونيو ٢٠٢١م-
أحسنت وأجدت رويتنا بما انتظرناه ولانزال نتلهف أكثر
ردحذفأحسنَ الله إليكِ 💙 ياربّ الكلمات وريّها 🌿
حذف