لمن تكتب؟ آراء - أمل السعيدي
يستخدم الكاتب نبرة جديدة في التعامل مع المتاح والفائض على حدٍ سواء، فما يكتبه هو العبء الذاتي الذي يخصه، لا يبقى للكاتب خارج ورق الكتابة الذي تعود أن يتجلى فيه، إلا غير الضروري في ذلك الوقت على أقل تقدير، فما يقوم به هو منح حيويته، و لهفته ومأساته عبر هذه الكتابه فيما تبدو وسيلته التي يكتب بها، جرذاً يقرضُ السماء أولاً، أو محراثاً يحفر الأرض، لكن لمن يُبقي الكاتب فتحة السماء تلك، ولمن يدع الأرض جاهزة للإخصاب والتجلي؟
إميل سيوران كان يرفض التلاقي مع الجمهور لأنه كان يعتقد في حال فعله لذلك بخسارة قدرته على التخاطب مع ذاته عبر كتاباته، إن أناساً آخرين سيحشرون أنوفهم دائماً بين الورقة والكاتب، فلا يعود للكتابة قدسيتها وروحانيتها الشديدة، إننا إذ نشارك كتاباتنا مع الآخرين إنما نشاركهم تجاربنا نحن، حتى تلك الكلمات الصغيرة إنما هي أنفاسنا البطيئة، والمسافة بين كلمة وأخرى هي رفعة القلم او المسافة بين مفتاح وآخر على لوحة المفاتيح التي نتساقط أمامها.
ماريو بارغاس يوسا كتب في كتابه "الكاتب وواقعه" عن نظرية سارتر في"أن التزام الكاتب هو التزام تجاه زمنه ومجتمعه الذي يعيش فيه، إن الكلمات أفعال وإنه يمكن للإنسان من خلال الكتابه أن يؤثر في التاريخ"
بورخس في المقابل كان "يمثل الفنان الذي ينكمش من العالم حوله ويلجأ لعالم من العقل والمعرفة والخيال، كاتب ينظر بإحتقار للسياسة والتاريخ بل وحتى الواقع ويعرض تشككه بلا خجل وازدراءه العنيد لأي شيء لا ينبع من الكتب"
وكم يبدو السؤال ملحاً عند الكاتب في مرحلة ما، فبعد أن يسأل عن أهمية الكتابة بالنسبة له، أو ما تعنيه الكتابة في حياته، يسأل نفسه عن الذين يكتب لهم .
سارتر يعبر عن فكرة الأدب لمن؟ عبر كتابه "ما الأدب" ويقول أن على الكاتب أن ينتبه لمعاصريه وأن يبتعد عن المعاني في شكلها التجريدي ويضرب مثالاً عن قصة "صمت البحر" وعن البغض الذي لاقته نتيجةً لعدم إستهدافها المجتمع الذي عبر عنه الكاتب في حينها .
الكتابة والقراءة بالنسبة لسارتر إنما هي وجه الحقيقة التاريخية الواحدة والواضحة على حدٍ سواء، إنه بذلك إنما يخالف المفهوم الرواقي عن العالم والذي يعتبر البشرية كتلة واحدة وجب التعامل معها على هذا الأساس، على الطبيعة التي تمثلها والتي تقودها في هذه الكينونة. إن ظروف الكاتب بالنسبة لسارتر هي العامل الحاسم في إنتاجه، إنها موضوع الكتابة. لذلك لا ضرر أبداً من التوجه إلى جمهور معين، يدرك فيه الكاتب هذا التوجه وأهدافه لذا يصف سارتر الجمهور بـ "الطرف الآخر".
سارتر يعتقد أيضاً ان الكتابة إنما هي وظيفة اجتماعية، فعلى الرغم من أن الإنسان لا يبدو مضطراً لإختيار هذه المهنة، إذن الحرية أصلٌ فيها، إذن فالكاتب هو موجود بصفته كاتباً بمقتضى مشروعه الحر في الكتابه، مما يجعل الآخرين ينظرون إليه على أنه كاتب، لذا عليه أن يستجيب لبعض المطالب التي يصبحُ فيها ملزماً على الإستجابة.
ولهذا نجد ألبير كامو الذي كان على خلاف مع سارتر يعبر في استوكهولوم سنة 1957 أثناء تسلمه جائزة نوبل للأدب في خطابه الذي اعتقد انه موجه ضد سارتر أنه لا ينبغي أن يُخضع الكاتب ادواته في خدمة أي شكل إجتماعي كان، سواء السياسي أو الطبقي، بل في خدمة أولئك الذين يتعرضون لثقل هذه الأشكال التي يعد التاريخ واحداً منها، عليه أن يتحمل خدمة البشر وألمهم وحريتهم..
بورخيس من جهته كان يكتب عن هذه اللحظة الحاضرة والسلسة الطويلة التي يمكن أن تمتد عن هذه اللحظة، يكتب لليوم، لهذه النقطة التي ستصبح بعد قليل قطعة مستقيمة، إن كان يلزم رؤية إنجلترا التحديق في المحيط، فإن الكتابة عن إنسان الغد، عن البشرية المقبلة تعني التحديق ملياً إلى الإنسان نفسه اليوم إلى إنفعالاته المشتركة إلى كلماته المهانة إلى الله الذي يبحث عنه أو يتركه، إنه ينظر إلى الإنسان خارج حدود المظهر الخارجي الذي يعيش فيه، وإن كانت نظرة بورخيس للحب صوفية، عندما يرى ان الحب ينأى عن التملك ويكون في التسليم، فهذه هي الكتابة التي نكتشفها من خلال أشعاره وقصصه، إنه يسلم كل ما له، وكل ما هو فيه إلى فكرة نتعرف عليها في كل زمان ومكان، لانها تلمسنا جميعاً، "كل شيء يحصل للمرة الأولى لكن بطريقة أبدية" ، هذا العالم يتفانى في الإلتزام بدائريته، والكتابة تحاول ملاحقة هذه الدائرة لأنها لا تصبح مربعاً بدورها في مكان ما على هذه الأرض، بورخيس يكتب ليسمي الأشياء بأسمائها، وبأسماء جديدة، تخيلوا لو أن النيل تدفق في كلمة "النيل"، هذه هي رسالة بورخيس إنما هو يكتب لهذا العالم.
في النهاية لا أعتقد أن إختيارنا لأحد الموقفين يمكنه أن يؤثر على هوية النص سواءً كانت موجودة سلفاً او مختلقة لإحتواء مسار هذا النص، حيث يمكن للإنسان أن يتبناه في أي مكان وزمان لا بل وأن يجد فيه خصوصيته، وهذا تماماً ما أسماه غالب هلسا في مقدمة كتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار بالأدب العالمي، فيقول القارئ فيه "هذا ما كنت أريد قوله، لكن الكاتب سبقني إليه" ، السؤال الآن هو لك أنت: لمن تكتب؟ - See more at: http://mobile.araa.com/article/75503#sthash.Amyr7gfH.dpuf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق