.
.
جدتي .. جدتي .. جدتي ..
كلمة لطالما تمنيت سماع صداها يجول في أنحاء بيت العائلة ..
لكن ! شاء الله أن لا يكون لذلك الصوت أدنى همس بيننا ..
فقدت كلتا جدتاي و أنا في سن صغيرة، لكنني أذكر ملامح كل منهما جيدا ..
أذكر ابتسامة كانت تنادينا بها لنلعب بالقرب منها، كم غضب علينا أباؤنا حينما كنا نتسلل لفتح خزنة جدتي التي كانت تحتوي على بعض الأكواب ومسبحتها وشيء من حاجياتها، ينظر إلينا الجميع بغضب إلى هيّ تبتسم لنا وتقول اتركوهم ..
لطالما عصيانها وجدي وذهبنا للعب في سطح المنزل المكشوف، لطالما أعطتنا بعض النقود فـ نتراكض متوجهين لشراء ما طاب لنا من طعام ، لطالما أخذتنا لتخيط لنا شيئا من الملابس على ذوقها "ذوق الجدات"، لطالما أنّبت بعضنا (الأحفاد) على الحماقات والمخالفات التي كانت تبرز عندما نجتمع، جعلني ربي من المدللين آن ذاك والحمد لله لا أذكر أني ذقت منها طعم ألم ..
أما جدتي الأخرى، فكانت تغدقنا بشتى العطايا كنا بالفعل مدللي عصرنا، لطالما عاتبت أمي على ضربي وأنا مخطئة، تغضب كثيرا إن حدث وضُربنا، أذكر مرة بأني أخطأت خطأً لا أعلم صحته من خطأه وبحكم طفولتي العابثة تم ضربي من قبل أمي ضربة لن أنسها أبدا، علمتني مقدار الخطأ في بعض تصرفاتي، أدبتني فعلا، توجهنا في ذات اليوم إلى تلك البلاد التي تنعم بأنفاس جدتي، وتم تحذيري طوال الطريق من أن أذكر شيئا أمام جدتي وإلا ... لا أعلم ما كان سيحدث !
بكيت يومها كثيرا، و أدركت أكثر أن جدتي هي نقطة الضعف عند كل من أمي وأبي، لذلك كنت لا أكترث لغضب أي كائن كان بوجود الجدات ..
دعوني من سرد تلك الذكريات التي رحلت برحيلهما ..
كنا في الغربة و ذلك لأجل دراسة أبي. وفجأة! تم حجز تذاكر السفر سريعا وانطلقنا في تلك الليلة إلى مكان ما عندما وصلنا اكتشفنا بأنه الوطن! كانت هناك سيارة تنتظرنا، كنت لا أزال طفلة لم تكمل عقدها السادس حتى. عندما وصلنا تم أخذنا إلى مجلس بيت خالي حيث كانت جدتي، أنهكني التعب واخوتي يومها، لم أكن نائمة كنت متيقظة نوعا ما، أذكر الكثير من الكلمات التي قيلت من خلف الباب، رفعت جسدي وتوجهت لفتح الباب الذي يطل على الشارع فوجدت الكثير من السيارات وازدحام شديد عند مدخل المنزل وصدى أصوات كثيرة! تأملت المكان لبرهة فـ أنا لم آتي إلى هنا منذ مدة من الزمن، تذكرت حينها جدتي إنها تسكن هنا إنه المنزل الذي يضم عبق من ريح الماضي إنها جدتي الحبيبة! توجهت إلى الباب الآخر والذي يقود لصالة المنزل مباشرة، لكنني وجدته مقفلاً وام أستطع الخروج طرقته بشدة لكنه لم يفتح، وضعت أذني فيه كانت الأصوات مختلطة ببعضها كثيرا لم أفقه ما كان يجري! واخوتي نيام، سمعت كلمات أذكرها بحذافيرها! لكنني لم أفقهها حينها [ انها في الثلاجة، ينتظرون ابنتها لذلك لم تدفن، توفيت بسبب آثار العملية، ستدفن غداً، لا يمكن أن نتركها هكذا أكثر، ...... ] والكثير ربما !
عندما خرجت من المجلس صباح اليوم التالي، وجدت الكثير من الناس في البيت الكثير من النساء بالداخل، لا أعرف أحدا لم أجد أمي، ما الذي يحصل لا أعلم! سمعت فقط أن جدتي توفيت، و لا أعلم ماذا يعني ذلك تماما ..
بعد أيام كثيرة جداً، بدأ عدد من في المنزل يقل شيئا فشيئا، خرجنا نحن الأحفاد كعادتنا للعب في بهو المنزل، كنا نتحدث عن جدتي طوال الوقت وأنهم أخذوها ليضعوها في الأرض لـ يغطوها بالتراب، يوجد في البهو مساحة مستطيلة زرعت فيها شجرة تين حالياً، كنا نظن بأن جدتي دفنت هناك ونذهب للسلام عليها بدون علم أحد، لا أعلم لم كنا نفعل كل الشئ وكأننا نرتكب جريمة كبيرة بذهابنا للسلام على جدتي التي وضعت تحت التراب، كنا نظن أنفسنا الأحفاد الأوفياء لأننا نذهب عند جدتي وحدنا، لا أحد يلومنا فنحن لم نرى أحدا من الكبار على طبيعته، ولا أحد يلومهم أيضا!
ثم قررنا أن نحفر تلك المساحة من الأرض لنرى جدتنا، اعترض البعض وكنت من المعترضين، كنت أخاف من أن أرى جدتي وقد وضعت في كيس ثم أدخلت تحت التراب كما كنا نتخيل ونحن نتحدث و نحلل كل ما يحصل حولنا، تحدثنا عن أن الكبار كانوا يبكون وأن الكثير من الناس كانوا يتوافدون إلى المنزل! وبعد أيام من تسللاتنا المزعومة للقاء جدتنا، سألنا أحد أمهاتنا ما إذا كانت جدتنا قد وضعت بالفعل في تلك المساحة من الأرض، و وصلنا رد كالصاعقة بأن جدتنا ليست هنا وإنما أخذت لمكان بعيد جدا من هنا و وضعت فيه، صدمنا صعدنا للطابق العلوي وبكينا!
وانتهت تفاصيل العزاء بالنسبة لنا بعد أن علمنا أن جدتنا لن تعود، ولن نستطيع الذهاب للقائها بعد اليوم أبدا أبدا ..
بعد سنوات من ذلك الحادث، كنا مجتمعين في منزل الابن الأكبر لجدتي، قررنا الخروج للمشي في أرجاء المكان كنت قد أكملت عقدي الثاني عشر آن ذاك، خرجت و ثلاثة من الحفيدات معي، الأولى تكبرني بعام وأختي التي تصغرني بعام وأخرى تصغرني بخمسة أعوام، كنا نمشي في مزرعة جدي -رحمه الله- مزرعة واسعة جدا و كبيرة جدا جدا، تحدثنا عن جدتنا وفي أثناء تجوالنا هنا وهناك وصلنا إلى أقصى بقعة في المزرعة، تأملنا الغرفة الصغيرة التي كانت تضم شيئًا من حاجيات جدي الراحل المتعلقة بالمزرعة ثم سألتنا أكبرنا عن رأينا في زيارة المقبرة! كانت قريبة جدا منا، لا يفصل محيط المزرعة عن المقبرة سوى ممر ترابي للسيارات، اتفقنا على الذهاب بعد أن شجعتنا بذكرها أنها ذهبت مرة مع والدها إلى هناك لزيارة جدي وجدتي وأكدت لنا بأنها تعرف مكان قبرهما جيداً، قطعنا الشارع و وقفنا عند بوابة المقبرة أدخلنا رؤوسنا تأملناها قليلا وأشارت إلى حيث يغسل الأموات ثم قالت هيا لندخل تبعناها ونحن نتلفت يمين يسار، رأينا بأن جدتنا ليست بمفردها هناك، الكثير من القبور، مساحة واسعة كبيرة من الأرض يرقد فيها الكثير من الناس بشكل غريب وصلنا بالقرب من القبور تحلقنا حول قبر جدتي و قبر جدي الذي لم نره! تأملناهما طويلا يرقدان تحت ظل شجرة بريّة، وقد نمى على قبر جدي بعض العشب الأخضر النضر، كنا نشعر بالفزع نوعاً ما، لا أحد في المقبرة سوانا والموتى، تحدثنا عن جدتي التي كانت ترقد في قبرها الذي بدأ بعض العشب بالنمو أعلاه، ثم تأملنا القبور لبرهة تحدثنا هناك طويلا عن القبور التي تعلوها الحجارة والأخرى التي وضع فيها بعض الخشب كعلامة لأهل الميت، بعدها ودعنا جدي وجدتي وهرولنا مسرعين إلى خارج المقبرة خوفا من أن يرانا أحد ما ويخبر علينا، عدنا للمنزل ونحن في صمت نعلم أننا ارتكبنا خطأً لكن لا أحد يعرف عن ذلك شيئا ولن نخبر أحدا كما اتفقنا ..
عندما كبرنا أكثر، وفي احدى الاجتماعات العائلية، كنا نعيد شريط الذكريات في ذلك المكان، قبل أن تقسم مزرعة جدي و تموت أشجارها كليا، و ذكرنا رحلتنا البطولية إلى المقبرة لزيارة جدي وجدتي، استمع إلينا الكل في ذهول ثم حُذرنا من ذلك كثيرا، في الحقيقة كانت زيارتنا الأولى والأخيرة إلى تلك المقبرة، عند مُرورنا من ذلك الطريق أحاول أن أُطل برأسي لأرى إن كانت قد تغيرت بعض التفاصيل فيها .،!
بعد وفاة جدتي بخمسة أشهر تقريبا توفيت جدتي الأخرى، وكانت تفاصيل ذلك اليوم مبهمة كثيرا، لم نكن نعلم بوفاة جدتي شيئا البتة، غادر أبي المنزل من الصباح الباكر عاد إلينا وأخذنا إلى بيت العائلة، وجدنا البعض هناك والبعض لم يصل بعد، وبحكم طفولتنا عندما نلتقي نحن الأحفاد لعبنا حد التعب وتحدثنا عن بعض التفاصيل، سمعت أن أبي هو من حمل جدتي في سيارتنا، كانت ترقد جثتها في المقعد الخلفي وأخذوها إلى المقبرة لتدفن "لتوضع تحت التراب" بمفهومنا الخاص، تراكضنا كثيرا ولعلنا بكينا، نرى الكل يبكي كهلهم، شابهم وصغيرهم الكل يبكي بكاءً لا يبكيه الكبار بمفهومنا!
أذكر أنني كلما جئت لأركب السيارة أتأمل المقعد بصمت ويترآئى لي طيف جدتي يرقد فيه، واستمر ذلك الوضع عندي مدة من الزمان، يلاحقني طيفها كل ما ذكرت سيارة و كلما هممنا بالخروج، أذكر أنه عندما تقرر بيع السيارة لـ أحدهم كنت أول المعترضين قد لا يعلم أحد السبب وبحكم طفولتي لن يستمع لرأي أحد، أو بالمختصر لا دخل لي في أمور كهذه!
طيف جدتي الراقدة في تلك السيارة يرقد في ذاكرتي منذ زمن، كلما رأيت سيارتنا تلك أذكرها تماماً أصبح طيفها يلاحقني عند كل سيارة تشبه سيارتنا، رغم أنني لا أعلم حقيقة ما إذا كانت بالفعل نقلت بسيارتنا تلك أم لا، مهما يكن علقت هذه الرابطة في ذاكرتي !
أتعلمون !
لا أدري سبب سردي لمثل هذه الأحداث الآن، سأتم عقدي السابع عشر بعد أشهر، أخوض غمار المعركة النهائية من سنوات دراستي، إنها سنتي الأخيرة على أعتاب الثانوية، كثيرا ما أسمع من رفيقاتي حديثاً عن الجدات وزيارة الجدات وفي نفسي تتوالى الصرخات!
بأن! لا جدة تدعوا لي بأن أحصل على أعلى معدل في بلادي، لا جدة لي تدللني لأني ابنة ابنها أو ابنتها، لا جدة لي تمسح على رأسي وتلقنني شيئا مما علمتها الحياة إياه، لا جدة لي تشاركني همومها باختلاف العصر من زمانها إلى زماني هذا، لا جدة لي تحكي عن طفولتها وأيامها، لا جدة لي تسرد معنى الكفاح في هذه الحياة لأجل لقمة العيش، لا جدة لي أمسك بيدها لأوصلها للمسجد ونصلي الجمعة أو التراويح معاً، لا جدة لي تجمع شمل عائلتنا بين شهر وآخر، لا جدة لي ستعاتب أحداً على إيذائي، لا جدة لي أجلس بين أحضانها لتمسح دمعات الانكسار عني، لا جدة لي تزيح عن كاهلي هموم عصري هذا بذكريات ماضيها، لا جدة لي توقظني أو أوقظها لنصلي القيام معاً، لا جدة لي تسمع تلاوتي أو تجلسني بجانبها لتراجع لي حفظي، لا جدة لي ستمسك بيدي وتفخر بي عندما أحقق نجاحا ..... .،!
لا جدة لي ، لا جدة لي ، لا جدة لي ..
الحمد لله أن جعل لي والدين احتويا كل تفاصيل حياتي ..
لكن! فقد الجدات ... فقد الجدات، مؤلم جداً.،!
#أروى_العَبريةة
قبل 485 يوماً
عشت تفاصيلها بدقة! شكرًا لأنك تكتبين!
ردحذفلو تصل الرسالة فأوصليها إلى جديّ، فكلاهما اختارهما ربهما قبل أن يخلقني، وحين أسمع عن حكاياهما أود لو لقيت هذين الرجلين العظيمين! أسأل الله أن يجمعني ويعرفني بهما في جنانه <3
شكراً لأنك هنا دوماً ")
حذفأظن أن لديهم رسائل لنا أيضاً!
نحن لا نستطيع مخاطبتهم إلا بالدعاء،
أما هم فما عاد لهم سبيل يوصلهم إلينا ..
لذلك!
حمداً لله أن هذه الدنيا فناء!
.
. امين يا رب <3
حلو
ردحذفشكرًا جزيلًا ..
حذف