قبل ستّ سنوات من الآن، كيفَ كان صباحي؟ أين كُنت؟ ماذا كنتُ أفعل؟ كيف كانتِ الحياةِ وقتها؟ يا لقدرةِ القدير، كيف كيّفَنا هُناك يومًا، ويومًا هُنا.
كنتُ أصحو وصوتُ المطر على النافذة يوميا، أقصد المدرسةَ والشوارع غريقة. أعودُ منها عَلى صوتِ أهازيج جارتنا المُسنّة. وحفيدهَا الذي يدورُ حولهَا وهي تداعبُ أغصانَ الزيتون لتقطفَ ثمارَ جُهدهَا ولقمةَ العَيشِ التي تقتاتُ عليها سنينًا. عصرَ كُلّ يوم تخرجُ العائلةُ كُلّها، تتوزعُ حولَ المنزل لحصادِ الزيتون. ولدُها الذي شابَ مما لاقى في الحياةِ يهزّ الشجرةَ التي لا تسقطُ أوراقهَا فصل الخريف. رمزُ الزيتونِ هُناك كرمزِ النخيلِ هُنا في الخليجِ. بينهما أنَا، وبينهما يجبُ أن تكونَ أنت لأنّك مسلم، لأنّك عربي.
أتذكرُ جيدًا خروجنَا في شوارعِ الحي وتراكضنَا الطويل، تزلجنَا على الرصيفِ تارةً وفي منتصفِ الشارعِ المُفرّغِ لنَا في ذلك الوقت تارةً أُخرى. أتذكَر الصباحات الحيّة بصوتِ المطر ورائحتهِ المختلطةِ بالمساحاتِ التي تغطيها أشجار الجوري المحيطة بشقتنا الأرضيَة في حي الرابية. حرصَ أبي على زراعتهِ بكافةِ ألوانهِ. هُناك من الأصفر واحدة، من الأحمر أربعة، من الزهري اثنتين ومن الأبيض ثلاثة احداها كبيرةٌ جدًا كشجرةِ الكلمنتينا التي كانت في منزلِ الجدّة التي يمتلك ابنها حصانًا أصيلًا جميلًا. كان يتركهُ في سهلٍ مطّلٍ على المنزلِ الذي غادرناهُ بسبب تشقق جدرانه.
أتذكَرُ الصباحات التي تبدأ بالسلامِ على العمّ ياسر، كان لا ينفّكُ عن رفعِ صوتِ القرآن صباحًا، وهو مارٌ في شوارعِ إربد جامعًا إيانا ليومٍ دراسي جديد. أتذكرُ الهدوء الذي يتلبس ماما حنان مشرفة الحافلة صباحًا وصخب صوتها الحاني مساءً في طريقِ العودة. آه .. كانت العودة عودتين، عودةٌ من المدرسةِ إلى المنزل. وعودةٌ بالروحِ إلى فلسطين.
أتذكرُ جيدًا الحزنَ الذي يتلبسُ كُلّ شيء، وجوهَ المعلمات نبرةَ أصواتهنّ السكُون الذي يطغى على قاعاتنا المدرسيّة، لم يكن يكسرهُ سوى صوتِ الأذان الذي يطلقهُ مؤذن مسجد المدرسةِ مسجد حسن البنا الملاصق لمبنى الذكور. كنّا نقصدهُ لحضورِ المحاضراتِ مع المعلمةِ التي تحرصُ على أخذنا إليه من حينٍ لآخر. أتذكرُ جيدًا معنى الحياد الذي يكسو ملامحنا ونحنُ نستمعُ للملحمةِ التي تُحدثهَا الانتفاضات، أتذكرُ جيدًا صوتَ بكاء الشيخ ختامَ كُل لقاءٍ داعيًا بالنصرِ لاخواننا المستضعفين في فلسطين وفي كلّ مكان.
أتذكرُ الصورةَ التي التقطت لأشلاءِ الشهيد الشيخ أحمد ياسين، أتذكرها أكثر من كل شيء، لون الجدار، الشارع، ملامح الطريق، نوع الطائرة، ماذا؟ قطعًا لا يمكن لي تصورها بكلماتي الهزيلةِ هذه. وكأنني أُحاول بذلك منحَ الكلمات جزءًا من الدّقةِ التي تتميز بها أنظارنا عن الكاميرات الرقمية مهما بَلَغَ تطورها. أتذكرُ وجهَ معلمتيَ المُحمّر بكاءً والابتسامةُ تعلوهُ وهي تتدبرُ معنا قولَ اللهِ تعالى: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوٰتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ". كانت جلّ حياتنا دعاءً بالقوةِ والصبرِ والثبات والنصر وكل شيء. يُمثل الدعاء مفتاحَ كُلِّ شيء في وجودنا. سلامٌ على روحِ الشيخِ المؤسس.
أتذكرُ وجهَ رجلٍ راشدٍ شابَ رأسهُ وشابت لحيتهُ، أتى مرَّة والأسى بادٍ عَلَيْهِ بشكلٍ لا يُطاق أبدًا. فتحَ بابَ الحافلةِ واستقرّ في مقعدهِ حتّى أنهتِ المعلمةُ إحصاء عددنا، وانطلق. كَانَ وجهه الآخر محمرًا، كان قد نسيَ فتح تسجيل أنشودة "عرس الحريّة" التي يبدأ بها عادةً. كَانَ بالهُ مشغولًا، يقودُ كالمعتاد لكنّه جريح، وما كَانَ جرحهُ سوى غزّة. غزّة التي أظلمت وقتها طويلًا وتقطّعت بأهلها سُبُل العيش. كان العمّ ياسر مهمومًا، وكنا نعلمُ همّه لأنّه همنا الذي نستذكرهُ كُلِّ صباح ونحنُ نردد في الطابورِ الصباحي قصيدةَ الشاعر إبراهيم طوقان:
مَوْطِني!
موْطِني!
اْلجَلالُ وَالْجَمالُ وَالسَّناءُ وَالبَهاءُ
في رُباكْ
وَالحياةُ وَالنّجاةُ وَالهَناءُ وَالرَّجاءُ
في هواكْ
هلْ أراك سالماً مُنَعَّماً وغانماً مُكَرَّمـاً
هَلْ أراك في عُــلاكْ تَبْلُــغُ السِّماكْ
مَوْطِني!
مَوْطِني!
الشَّبابُ لَنْ يَكِلَّ ، هَمُّهُ أَنْ تَسْتَقِلَّ أَويَبيدْ ،
نَسْتَقي مِنَ الرَّدى وَلَنْ نَكونَ للْعدِا كَالعَبيدْ ،
لا نُريدُ ذُلَّنا المُؤبّدا وَعيشـَنا المُنكَّـــدا ،
لا نُـريدُ بَلْ نُعيــدْ ، مَجْــدَنا التّليــدْ .
مَوْطِني!
الْحُسامُ وَاليَراعُ لا الكَلامُ وَالنِّزاعُ
رَمْزُنا
مَجْدُنــا وَعَهْدُنا وواجبٌ إلى الوَفا
يَهُزُّنا
عِزُّنا!
غايةٌ تُشَرِّفُ وَرايةٌ تُرَفْرِفُ
يا هَناك في عُلاك قاهِراً عِـداك
مَوْطِني!
كانت الأحياء المحيطةُ بالمدرسةِ تضجّ بصوتنَا، نصرخُ من أعماقنَا ويكأنّ الطيورَ تحملنَا حجارةً من سجيل وتُسقطُ أصواتنَا على رؤوس كُلِّ مُعترضٍ على الانتفاضةِ والحركةِ الإسلاميّةِ في فلسطين. وتَحطِمُ بنَا الوجودَ الصهيونيَ في فلسطين، حطمًا.
أتذكرُ ...
#أروىٰ_بنت_عبدُالله
٣٠ مُحَرَّم ١٤٣٧ هـ
١٢ نوفمبر ٢٠١٥ م
١٢:٤١ ص الخميس.
باجتماعِ نواحِ ثكلى
وفرحهَا بالشهيد
أكتبُ ..
الصورة لمدرستي ..
المدارس الإسلامية فرع إربد
ملاحظة: لا أسمح بنقل النصوص من المدونة، من يريدها فليحتفظ بالرابط. شاكرةٌ لكم.