قلتُ في تويتر: وقت الفراغ قاتل بعد ضغط عمل. رغم تحفظي فيما يتعلق بلفظ "الفراغ" والذي دائمًا ما أتحاشى استخدامه بسبب كتابٍ اقتنيتهُ من خيمةٍ للكتبِ المستعملةِ وسط سوقِ إربد على زاوية ساحةِ الخيولِ هناك منذ ثمانِ سنوات، عنوانه "لا وقت فراغ في حياة المسلم". أشعرني بأن الفراغ الذي يتسلل فجأة قد يتسبب بموتي، أو تدمير بنيان علمي كنت أعمل عليه. أقلق كثيرًا من كل وقت فراغ يمر علي وأهرب منه بالقراءة، أو مجالسة الجمادت في حال لم أكن في المنزل. لعلّ أجدى ما فعلتهُ في هذه الحياة لنفسي أو لحياتي: التخطيط. أعترفُ بأني لا ألتزم بالخطط التي أكتبها وأرسمها وأعكف على غربلتها. لكنني منذ أمدٍ بعيد جدًا أحاول جاهدة الالتزام بها.
أستطيع أن أقول الآن بأنني وجدت الطريق الذي كان يفترض بي السير فيه منذ ذلك الزمن، قبل عام من الآن، حين كنتُ طالبة في جامعة نزوى. أدركت أهمية أن يكون للحياة التي أعيشها معنًى. كُنت أستشعر كلّ يوم المسؤولية الملقاة على عاتقي للاعتناء بنفسي، يجبُ أن أستيقظ بمفردي كل صباح حتى لا تفوتني حافلة الجامعة. الآن، أنا فخورة بنفسي لأنني استطعت فعل ذلك على مدار فصلين دراسيين كاملين. كان يجب علي أيضًا أن أُطعِمني، كانت هذه أصعب مهمةٍ وقتها، أعترف بأنني أكره أن آكل بمفردي، أفقد شهيتي تمامًا. لم يكُن من الصعب على فتاة مثلي الطبخ، أحسبني جيدة بما فيه الكفاية لفعل ذلك، لكنني كنتُ أكره أن يُعتمد علي في الطبخ لشقة تعيش فيها سبعُ فتيات غيري.
كان يجب علي أيضًا ملءُ كل الثواني التي كنت أقضيها مع والدي في الطريق إلى المدرسة بشيء مفيد وأنا في الحافلة بمعدل لا يقل عن نصف ساعة صباحيّة يوميًا، حتّى أنني أحصيت عمري الذي سيمضي في الحافلة ذهابًا وإيابًا إلى يوم تخرجي، كان الناتج شهرين أو ثلاثة تقريبًا. لا يمكن أن أحتمل المكوث كل ذلك الوقت لو لم يكن مقتطعًا. ارتعشت حينها وبدأت أبحث عن شيء يقرّبني من الجنّة أكثر، حتّى لا يضيع عمري في الحافلة. كنتُ أُراجع حفظي صباحًا، وأقرأ كتابًا الكترونيًا مساءً أو أنام، طوال الفصل الأول. وفي الفصل الذي تلاه، اخترعتُ لنفسي منافذَ كثيرة، كنت أتخذ بعض الأيام للدعاء فقط، أدعو كثيرًا لوالدي، اخوتي، أصحابي وكل من أعرف، حتّى أنني في أحيان كثيرة أمرُّ على قائمة الأسماء في هاتفي. كان الأمر ممتعًا، أشبه بسعادة مُرسلة لا يعلم عن زمانها ومكانها ومضمونها غير الله. كان هذا أكثر فعل يدعوني لأبتسم طويلًا كلّ صباح، أبدأ يومي بصدر منفتحٍ منشرح.
ولأنني أقضي جُلّ وقتي مع صديقتي الحبيبة في المنزل، كان يجبُ علي إيجاد سدادة أخرى للعُمرِ الذي كنتُ أقضيهِ مع أُمي، بشيءٍ آخر. لم يكُن لي ملجأ غير الكتب. لكنني في أيام الضغط والتعب، كرهت القراءة وكرهت وجودَ الكتب في كل مكان في غرفتي في السكن، في خزانة ملابسي، على طاولتي وداخل حقيبتي. أتذكر أنني كنتُ أستمع للكثير من الترهات وقتها، كان في هاتفي أكثر من خمس مائة مقطع صوتي، أسمعها بلا وعي والسماعات بأعلى مستوى للصوت تصرخُ في أذني. كنتُ مهوسةً بهاتفي، كان جزءًا مني، جزءًا يكرهه الجميع لأنّه لا ينفك عني أبدًا. كان ملاذي الآمن من كل شيء حولي، من الخوف الذي يعتريني مساءً بسبب نافذة غرفتنا التي تطل على مقبرة. لم يكن خوفي من المقبرةِ ذاتها، بل من التهاون في كل شيء عند الفتيات حولي، اللاتي يقطُنَّ في سكن الطالبات هذا، مقابل الأراضي الممتدة أمام أعينهن بأحجارها المقامة على رؤوس وأقدام الموتى.
في خضم تلك الحياة التي كنت أعيشها، لم أشأ أن أكتب الحُزن وأسطر الدموع، لم أكن من المتذمرين أبدًا. حتّى أن بعض الزميلات كُنَّ يسخرن من اجتهادي في المرحلة التأسيسية في الجامعة، كنتُ أستمتع بالتحديات التي أضعها لنفسي، وأعيشها كلّ يوم وأنا سائرةٌ في درب لا أعرف إلى أين سيأخذني. كانت الإيجابية التي تضع غشاءها الشفاف بيني وبين مساوئ العيش بعيدًا عن العائلة التي لم أغادرها قط، والتي أرفض أن أبتعد عنها ساعةً بمفردي أو ليلة عند أي أحد من أقاربنا مُذ كنت طفلة، ثقيلةً على صدري كثيرًا، كنتُ أتنهد كثيرًا جدًا كما أفعل الآن وأنا أكتبُ هذا النص الذي كان من المفترض أن يكون عن التخطيط، لكنهُ انحرفَ نحو سرد عقربٍ صغير في ساعة زمنية أجبرتني أن ألتزم بالخطط التي أضعها حتى لا أضيع في الحياة ويضيع عمري فيصبح هباءً منثورًا.
إنَّ الحقيقةَ التي يهربُ منها البشر، هي أن الوقت لا يمكن أن يتوقف لحظة أو يعود. إما أن تتدارك نفسك وتقتسم من عمرك وقتًا لتعيد ترتيب نفسك وحياتك بكل ما فيها من جوانب. وإما أن تبقى بكاءً شكاءً وتُضيع من عمرك المزيد. تأمل اللحظة التي تقرأ فيها هذه التدوينة التي اقتسمتُ لها من عمري وقتًا لتُكتب، واقتسمت أنت لها من عمرك وقتًا لتُقرأ. جرّب تقسيم يومك بكل ثوانيه، وانظر أين أنت وكيف يمضي عمرك. قف قليلًا وتأمل عقارب ساعتك، أو افتح مؤقت هاتفك وانظر إلى الثواني التي تمضي أمامك، استشعر أنك تفقدُ شيئًا ثمينًا لا عودة له، تحسس نبض قلبك مع مرور تلك الثواني، فكّر بالشيء الذي سيفقده العالم إن فقد شخصًا مثلك. وأخيرًا اسأل نفسك: ما الذي سيموت معك من الأحلام؟ ما الذي سيموت معي من الأحلام؟
أروى بنت عبدُالله.
13 جمادى الآخرة 1437 هـ.
22 مارس 2016 م.
الثلاثاء 11:30 م.
أقسمُ باللهِ أن لم يمرَّ علي أبدًا تقريبًا موضوعٌ يخنقُني ويشغلُ بالي إلا كتبت عنه أروى بعد بضيع ساعات أو أييماتٍ.
ردحذفأرفعُ لك قبعتي عزيزتي. شكرًا لأنني أعرفك.
وشكرًا لأنك غيرتِ نفسية الصباح السيئة. سأقدر لك ذلك أبدًا.
جمـــيل جدآ#
ردحذفأسعدتيني كثيرا اروى
اليوم انهيتُ قراءة مدونتكِ
سعيدة جدا بكِ وبتلك الحروف
وأشتاقكِ وأشتاق اللقاء بكِ
حفظگك الرحيم