"أتعلمينَ أي حُزن يبعث المطر
وكيفَ تنشج المزاريبُ إذا انهمر
وكيفَ يشعرُ الوحيد فيه بالضّياع؟
بلا انتهاء _ كالدَّم المراق، كالجياع،
كالحُبّ ، كالأطفالُ، كالموتى _ هو المطر ! "
ارتباطُ اسمِ السيّاب بالمطر أمرٌ مفروغٌ منهِ في ذاكرةِ كُلِّ طالب
مدرسي مرَّ على أنشودةِ المطر، في كتابِ المؤنس في عُمانَ على وجهِ التحديد. رغم أنّي لا أوافق كُلَّ الحزنِ البادي في الاقتباس، إلّا أنّه من أعذب مقاطع القصيدة.
قبلَ أن تصلِ السحابةُ الركاميّةُ بعاصفتها الرعديةِ عندَ منزلنا،
كُنت في الأعلى أرسمُ لوحةً فنيّة في الغرفةِ المُخصصةِ للألعاب. سمعتُ نداءَ أُمي،
كانت تنادي باسمي بنبرةِ ال_تعالي بسرعة_ ركضتُ إلى الأسفل، كانت تقف عند مدخل
المنزل، حسبتها تقرأ ككلِّ يوم، إلى أن وقفتُ على يسارها فقالت: انظري. السّماء.
السّحاب يتحركُ بسرعة. هُنا هُنا يمينًا. تأملي ذلك الجانب، غيمةٌ سوداء كبيرة.|
كنتُ أقفُ على حافةِ الدرج، بدأت رياح خفيفة، كلما تقدّمتِ الغيمة، زادت شدّتهَا. بدأت
تسكُبُ المُزن خيرها قطرة فقطرة، وكلما تقدمتِ الغيمةُ، تزايدتِ القطرات.
في تلك اللحظات، طارت سجادةُ المجلس الكبيرة، التي كانت مفروشةً في
ساحةِ المنزل لتعقمها أشعة الشمس، ولحقتها السجادةُ الأخرى. طارت نحو خط الريحانِ المزروعِ على يمينِ بوابةِ
المنزل من الداخل. التفتُ وأمي يمينًا بعدَ سماعِ صوتِ ارتطام، سقط خزانُ ماء بيت
الجيران من سطحهم العلوي. في لحظة، أظلم الحيُّ وما حوله، حلّ الظلام قبل عادتهِ بساعتين،
قبلَ أن يبدأ ضوء أعمدة الشوارع البرتقالي بالسطوع. تكّسرت ريحايننا، وانفصلت
سيقانها عن بعضها. في حينِ ارتوتِ النخلاتُ وأشجارُ الليمون، ونباتاتنا الأخرى. وبدأت روائح السّماد بالانتشار في الأجواء، لكنها لم تكن بالقوة التي اعتادت بها اغاضتنا، إذ أن ريحَ المطر بعطرِ السّماء المخلوط بأتربةِ الأرض كان نفاثًا بعذوبة.
ـــــــــــــــــــــــ
كلُّ ما حاولتُ فعلها حينها، الثبّات. زاد
اصراري بعد رؤية تدحرج خزان المياه، وطيران السجادات الكبيرة. سرعة الرياح زادت
أكثر ككلّ الأنواء التي تشتدُّ. بدأت صفعاتُ المطر تتقاوى على وجهيَ المرفوع إلى
الأعلى. حاولت حمايةَ عيناي بأطراف أصابعي، خبطت قطرات أقوى خدي حتّى ظننتها
ثقبَته. ما إن أصبحتِ السّماء تسكبُ المطر ويكأنها بئرٌ يحاول أصحابهُ ملأ
بركَتِهم بأسرعَ وقت ممكن؛ في حينِ أنها تسكبُ ذلك الكمّ الهائل على صفحة الأرض، كاد حلمي بالطيران يتحقق ولكن بصورة عكسيّة، إذ أنني إن لم أتحرك وقتها، لأصبحتُ
مع العصافير التي تتخبطُ في جدران المباني، وأسطحِ السيّارات. ربما.
هرولتُ نحو أمي خلف الباب، لفحني بردٌ قارص، بعد أن تبللتُ بالكامل،
وضُربتُ بخيوطِ فستانِ طفلةٍ صغيرة كانت تدور بلا توّقُف صافعةً كلَّ ما يعترضُ
طريقَ انحناءتِ فستانها الجميل. تدورُ يمينًا ثم تتوقفُ لتدورَ شمالًا. كانت تلك
الغيماتُ الركاميّة كطفلةٍ منتشيّة بالطمأنينة. ترتدي فستانًا مُدرج الألوان بين بياضٍ
وسواد. خيوطُ الدانتيل الخفيفة أصبحت معًا قطعةً فاتنة تُغطي كلَّ منطقةٍ مرّت
بجمالها فوقها. تتقدَّمُ بسرعةٍ ويكأنها تهربُ من أُمها التي تلحق بها، بينهما
مسافةُ ثمانِ ساعاتٍ كما جاء في أخبار الشبكات اليوم. 8 مارس
ــــــــــــــــــــــــــــ
الساعةُ الآن، الثالثة وأربعونَ دقيقة. بقيت ساعةٌ على مرور يومٍ كامل
على تلك الحالة الجويّة يوم أمس.
بدأت
الآن بالفعل، لابدّ من أنها الأُم التي كانت تلحق أطفالها يوم أمس. تبدوا لطيفةً
وسعيدة. وصل طرف عباءةِ الأُم الحنون، قطيراتُ المطرِ تتابعَ، حتّى غطَّت المكان بلونٍ أبيضَ فتّان. لمَ قد يجازف بعضهُم ويخرج في أنواء كهذه عوضًا عن الاسترخاء ومشاهدتها بلا حاجز يتمثل في نوافذ السيارة التي لا نرى من خلالها ما نراه بلا حواجز أو خوفٍ في المنزل؟
وفي الجانب الآخر، لم يولولُ البعض خوفًا وجزعًا من الظلام أو شدّةِ الهطول؟ لمَ قد لا يلحظون وجودهم في منطقةِ أمان؟ وأن السقوط والانفجارات وحالات الوفاة بسبب الالتماس الكهربائي التي تحصل في أماكن أخرى مقدّرة في كتاب قبل أن نعلم بكل هذا؟ وأن كلّ ما عليهم فعله المكوث في المنزل أو أي بقعة آمنة، وعدم المخاطرة بأنفسم عن طريق اتباع إرشادات الأمن والسلامة الموَّضحة لكل الحالات؟
لعلّ أبلغ ما مرَّ علي خلال هذه الأيام من كلمات: حذر بلا ذعر.
ــــــــــــــــــــــــ
إن الطفلة التي كانت تركضُ بفستانها عصرَ يوم أمس، كانت سعيدة. في حين أن الكثير من المقاطع التي رأيتها يومها مكسوّةٌ بلباسِ الخوف، يبكونَ ويسألونَ الله حُسنَ الختام. كُنت من البعض الذي شقّ طوق ابتسامةٍ على وجههِ. كما أُردد في داخلي: "سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكةُ من خيفته".
بعدَ أن هدأت الطفلة، وهدأت خيوطُ فستانها معها. بعدَ هدوء المطر/ذلك الطفل الذي سمعناهُ رعدًا ورأيناهُ برقًا ومطرا. هدأنا. وعُدنا إلى حيواتنا حيث لم يعد أي شيء بحاجةٍ إلى مراقبةِ أحدٍ عن قرب.
ـــــ
لماذا؟ لأنه الصخب والهدوءُ معًا، لأنهم المتعةُ والتعبُ معًا. لحظةَ لعبهم الجنوني، نراقبهم بحذرٍ وابتسامة ودعوات. وبحُبٍّ وقتَ هدوءهم ونومهم. لأن المتعةَ تتجلى وقت الركضِ تحتِ سقفِ السّماء التي خلقها البارئ معطاءة، ولأن مقابل كل خطوةٍ أنفاسٌ ونبضاتُ تتسارع، فإننا متعبونَ جسدًا أقوياءُ رَوحًا ورُوحًا.
ـــــــــــــــــ
عُدت إلى عملي في الأعلى أنهيتهُ سريعًا قبيل المغرب وعاودت ترتيب مكتبِ غرفتي الذي لا أنفك عنه طوال الليل. كُنت قد كتبتُ جزءًا من هذا النصِ في مخيخي وأنا أتأمل تدفُقّ المياه بغزارةٍ من منابعها السماويّة. جلست إلى حاسوبي كما أفعل الآن. فرّغت ما عندي وأكملتهُ، حتّى آثرتُ العَشاءَ والعِشاء عليه ثمَّ النوم.
وها أنا ذي أُعاودُ سكبَ الحروف مجددًا، على أمل أن ترى هذه التدوينةُ عيونًا غير التي تراها وهي في أوج تكوّنها. ختامًا، أعيدوا بلورةَ مشاعركم لحظةَ هطولِ المطر. كونوا سعداء ولو للحظةٍ وقتها. من الظلم بمكان، رؤيةُ كمِّ الأحزانِ هذا في ما تكتبونهُ يا نُثّار الحروفِ وشعراءهَا، وقتَ دوران عددٍ من الأطفال على أنفسهم مسعدينَ الأرضِ بغيثٍ وخيرٍ كثير. اخضّروا كما تفعل الأرض واستبشروا خيرًا. 9 مارس
أروى بنت عبدُالله.
06:38 م.
29 جمادى الأولى 1437هـ.
ياللجمال، ياللجمال.
ردحذفوجودكِ أضفى جمالًا غدير.
حذف