كانت المرّة الأخيرة قبل رمضان الفائت، حينَ أدركتُ أن اليد ما زالت ممدودة في حين غادروا، وقد خرجوا من حياتك لا من قوائم الأصدقاء فقط. حينها فقط قلت لنفسي، لم أمتنع حين امتنعت عن اجتماع ما لسبب شخصي لكن إرادة الله وتدبيره وحكمته قضت بذلك في كل تلك المرّات. وأراني مرّة أن الاجتماع كان في مكان لا ينبغي أن أكون فيه، وأراني مرّة اجتماعًا صاخبًا بالغناء، لقد أراني الله في كلّ مرّة سببًا كهذا يقول لي لا تحزن ولا تكن في ضيق. لكن وبنظر قاصِر وقلبٍ هشّ كنت أحزن حزنًا يقول لي: لو كنتِ معهم لما حدث هذا! أنتِ السبب يا أروى، أنتِ السبب.. لقد أفلتِ أيديهم.
استمرّ الأمر ردحًا من الزّمن، حتّى قلت لأمّي مرّة: لا أعلم لم لا أنفك عن كوني كائنًا مؤقتًا في حياة الآخرين، لماذا أكون المغادر الوحيد، والمهاجر الوحيد الذي لا يعلم عنه أحد، لماذا كنت أنسحِبُ بسهولة؟
قالت بالتفاتة عين حاذقة: توقّفي عن جلد نفسك!
أنا أجلد نفسي؟ يا إلهي! نعم فعلت! كانت تلك ال"لو" تفتح للشيطان بابًا لطالما حاول به النّيل منّي، وحاول بها زعزعة إيماني بعَوضِ الله الجميل عن كلّ ما تركته لله في حياتي.
وقفت حينها بقوّة الله وحده وعونه، أردد الجملة التي أجيب بها على أسئلة أمّي كثيرًا "من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه"، لم تكن الإجابة سهلة، أنتِ لم تنسحبي بسهولة، وحزنتِ وبكيتِ في مرّات، لكنك تنسين كل ذلك بمجرد أن يمضي، أو لعلّك تتجاهلينه.. ورغم كلّ ذلك، كان الإيمان بأن وعد الله الحقّ حقّ يزيدني يقينًا بالخَير في عوض الله الجميل، عن كلّ لقاء، وكلّ صديق، وكلّ موقف، وكلّ فرصة، وكلّ شيء آثرتُ بتركه وجه الله عزّوجلّ وحده لا شريك له.
بعدَها، عُدت لأرى صورة المشهد من بعيد، فوجدت فتاةً هادئة الطّبع، تدخل بحذر، تكون في الصّورةِ دائمًا أوّل من يشعل مصابيح المكان، ويرتب الأزهار على الطّاولة، تستقبل الزوّار وتبتسم كثيرًا. ثمّ.. وجدتها آخر من يغادِر دائمًا، وفي كثير من الأحيان كانت تطيل المكوث منفردةً هناك. ولمحت في تلك المرّة الأخيرة بعد تمام أسبوعين من الشّهر الفضيل رسالة قصيرة تقول فيها:
اعرف أنّ عليك ألّا تأسف عليهم، وألّا تكون في ضيق. أن تتجاوز كلّ الذكريات الجميلة، ولا تفكّر في الحاضر السيء الذي صنعوه. لقد مضى بهم مركب آخر لا مكان لك فيه، ولعلّ مركبك أيضًا لا يتّسع لهم لكنك لم تنتبه. صرفَ الله عنّك السّوء، وصرفك عنه. وربّما حرمك خيرًا، ولكن ليبدلك خيرًا منه.
بهذا الإيمان الرّاسخ يثبت القَلب، ولا يحزن على انفلات عقد الأصدقاء عند كلّ منعطف وبعد كلّ مرحلة. كلّنا محطّات في حيوات بعضنا، مصيرنا العبور. وعند نهاية كلّ طريق، تظهر مروءة كلّ فرد ويتبدّى نُبله. اختم ما بينك وبين النّاس بالخير، وإذا انصرفت فاحرص على صرف أذاك عنهم.
يا إلهي! ياربّ القُلوب ثبّت قلوبنا وهب لنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا وزدنا هدًى وتقًى ويقينًا ياسميع ياعليم.
————————————-
أتأمّل الآن مشاهِد كثيرة، وأرى فيها قول الله تعالى: ﴿فَاصبِر إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَستَخِفَّنَّكَ الَّذينَ لا يوقِنونَ﴾. وأتذكّر صَبر سيدنا أيوب عليه السّلام الذي أكرمه الله بعد سنين صبره وقال فيه: ﴿وَوَهَبنا لَهُ أَهلَهُ وَمِثلَهُم مَعَهُم رَحمَةً مِنّا وَذِكرى لِأُولِي الأَلبابِ﴾. ومنه إلى مشهد الحبيب المصطفى ﷺ مستقبلًا صهيب رضي الله عنه بقوله: "ربح البيع أبا يحيى"، المشهد الذي زرع في قلبي صورةً لنّبي الله الحبيب يستقبلني بعد كلّ رحلة خضت فيها غمار اتخاذ قرار صعب ثمّ ختمت ملفها بالقول: من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه. الله أنقذني! وأكرمني بعدها بنعيم العَوض الجميل ولذيذ الفرح بهِ.
في حين كنت أقف كجنّدي ألِفَ الحرب وبين يديه سلاح يعرف كيف يستخدمه لكنه لا يفعل كما يجب، أو كما قالت عبير مرّةً "بين يديك مسدس، وعوضًا عن أن تصوّبيه نحو الهدف، أنتِ تستخدمينه كمطرقة!".. لن يكون ترك الأشياء سهلًا عليك دون سلاح إيمانيّ قويّ تعرِف كيف تعيش به كزَاد، فتيله الآيات التي لا تنتهي ﴿قُل لَو كانَ البَحرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبّي لَنَفِدَ البَحرُ قَبلَ أَن تَنفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَو جِئنا بِمِثلِهِ مَدَدًا﴾، وسيبقى سراجك منيرًا ما استنرت بهدي الحبيب ﷺ الذي أضاء الله بهِ الظلمات.
وسُبُل الأولياء تحتاج إلى رِفاق صِدق يذكرونك إذا نسيت ويعينونك إذا ذكرت. رِفاق لا تستوحش مجلسهم لأنّه يربطك بروضةِ الحبيب، يفوح شذاهم زهورًا على طريقِ منابِر النّور، يرددون على مسامعكِ دائمًا "الموعد الحوض"، تلك المحبّة التي أوثقت في الله كلّ عراها وقامت ليلها ترجو اللطيف الكريم جمعًا تحت ظلال عرشه، لا تنفلِتُ عقدتها ولا يبتعد الآنس بها مهما نأت به الدّنيا جسدًا فرُوحُهُ في وصالٍ دائم.. ﴿قُل مَتاعُ الدُّنيا قَليلٌ وَالآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظلَمونَ فَتيلًا﴾.
أروى بنت عبدالله
٢٩ شعبان ١٤٤٣ هـ | ١ ابريل ٢٠٢٢م
١:٣٩ صباح الجمعة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق