الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

أصوات (٣) بَرَكَات ممتدّة..


قصدت مكتبة منزلنا باحثةً بين كتبي التي خبأتها هناك عن أوراق الأوريجامي الصغيرة الخاصّةَ بصناعة النّجوم. لمحت بينها دفترًا أبيضَ اللون، أعرفه جيدًا، فيه صورة بتلات ورد جوري أحمر وبضع كلمات بالإنجليزية.. الدفاتر في حياتي آلات لا يستطيع أبرع المخترعين الإتيان بمثلها، إنّها وسيلة للعودةِ بالزّمن.. ينتقل معها الجسد لا الرّوح فقط! 

يعود تاريخ ذلك الدفتر حسب المكتوب إلى أواخر شهر ذي الحجة من سنة ١٤٢٨ من الهجرة النّبوية الشريفة، أي مطلع يناير ٢٠٠٨م. كان يمثّل لي دفتر الوصول القوّي نحو الاتصال الحقيقي بعلوم القرآن، دفتر الوصول الذي سبقه عامان من النزوح، من الهجرة في سبيل الله، من الغربةِ التي كانت رغم شدّتها لطيفة برحمةِ الله وكرمه لأنّه معنا ولأنّه أكرمنا بالقرآن صاحبًا قبلها وأثنائها وبعدها. أتأمّل أبيات الشّافعي التي كتبتها على طبقة الدفتر "أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ..."، والفراشة التي رسمتها بعد كتابة اسمي بالقلم الأخضر اللّامع.. والنصيحة التي كتبتها أمي بخطّها "الثقةُ بالله أزكى أمل، والتوكّل عليه أوفى عمل".. يا إلهي كم كبرت تلك الطفلة وكم عامًا مرّ منذ ذلك الحين! 

تذكّرت في الأثناء جملةً أسمعها من هاجر كثيرًا، تقول "السّير في دربِ الوصول وصول"، لزمتني خمسة عشر عامًا لأدرك أن كلّ ذلك السّير كان وصولًا! أقلّب صفحات الدفتر وأتذكّر المعلمات اللاتي قصدت حلقاتهن في تلك الحقبة الزمنيّة، أتذكر المعلمة التي طلبت منّا كتابة تفسير جزءٍ من آية في سورةِ الجمعة "كمثَلِ الحمارِ يحمِلُ أسفارا"، وأقفّ عند ما خطّته يداي بدهشةِ الذي كان قد رأى الحقيقة وعاش بها منذ زمن بعيد... 

أعود من هناك سريعًا، مستذكرةً اللحظة التي كنت أنتظر فيها عبير بعد صلاة ظهر يوم الخميس.. لنتوجه إلى كلية الآداب حيث الحفل الختامي لنادي إتقان التلاوة. كنت أقلّب هاتفي بحثًا عن مقطع صوتي، فإذا بي أصطدم بتسجيلٍ لي كنت أنشد فيه أبياتًا كتبتها عن جمعيات التحفيظ! أتذكّر أنني كتبتها بحزنِ المشتاق إلى نعيم الحلقات اليومية التي كنّا نتنقّل فيها أيام ابتعاث أبي إلى الأردن، حلقة صباحية من السادسة والنصف مع ماما خلود في المدرسة، ثمّ حلقات الظهيرةِ مع ماما ماجدة.. وحلقات أسبوعية كلّ يوم سبت في مركز الهدى، وحلقات أخرى مع مس مروة في مركز اليرموك فرع الجمعية الرئيس بإربد.. وحلقات الصيف المكثفة مع خالتو هدى أم محمد وخالتو المديرة أم ناصر.. 

مضت خمس سنوات على تلك الأبيات! والآن؟

أتأمّل فتيات نادينا المحببّ بعينِ العبد الذي يسأل الله أن يتقبّل سعيه ويباركه، وأن يثبّت رفاقه ويمنّ عليهم بالمحبّة التي أوجبها لعباده الذين يجلسون في سبيله يتدارسون الآي ويتعاهدونه بينهم.. 

للهِ جِهادُ فَرَح وجهادُ عَبِير وجِهادُ نعْمَة، للهِ انتظارهُنّ وشرحُهُن وتركيزهُن لتصحيح خطأ ومعلومةٍ وضبطِ مخرَج حَرف. للهِ سَعيُ المشرفات وتطوعهنّ وإحسانهنّ، للهِ ثباتُ الطّالبات وصبرهنّ ومحاولاتهنّ. للهِ كلّ ذلك التكرار، ما أصاب منه وما لم يصب. للهِ التعتعة والمشقّة وبحّة الصّوت بعد ساعاتِ التدريب.

للهِ اجتماعنا على شيء من علوم القرآنِ فجرًا وضحى، ولله ضحكاتنا قبلَ صلاةِ الظّهر. للهِ صوتُ عَبيرة الآسر، وصوتُ زُهد وصوتُ أفنان الهادئ، وللهِ صوتُ آلاء ومشاكسات فاطمة لَهَا، للهِ صوتُ حبيبة الذي يذكرني بصديقتي عُهُود، للهِ صوتُ هُدى السبّاقة في رياضِ الذِّكر تتلو الآي وتقرأ الأذكار. للهِ صوتُ شيماء الذي نُحبّ، وللهِ أصواتُ الأحبّة في حلقاتِ يوم الجمعة الاستثنائية. للهِ صوتُ أسماء الذي يفتح أعيننا على خُضرةِ الخَريفِ حولهَا، وصوتُ الزّهراءِ الذي يجعلنا لا ننسى ما تقولُ كلّما وقفت على آيةٍ تتدبّرها. 

للهِ صوت عفراء المثابرة للهِ سعيها لساعةٍ نتآزرُ فيها لتسميع الوِردِ اليوميّ، وللهِ البسماتُ اللطيفةُ التي يرسلها بوجودِ هادِي الصّغير حولها، يتساءل عن حفظنا ويلتقط الكلمات فيسأل ماذا تعني كلمة ركيك؟ ركيك يا هادي تعني أننا لم نرضى بالوقف الاضطراري الذي يحدثه التفكير في كلمةٍ وسط الآي. وللهِ صوتُ لميس نهايةَ الأسبوع تترقب أصواتنا لمراجعةِ حفظ الأسبوع. 

كيف كنت تتوجس خيفةً في أحيان، وتنطلق معهم في الحديث أحيانًا أخرى.. وكلما مضى يوم، وجدت فيهم حُسن خلق وخفةً في النّفس، بل وخفة دمٍ نبيلة. تجدُ في كثيرٍ منهم لُطفًا بالغًا، وفِي جماعةٍ منهم عذوبةً متزنة، وفِي الهادئِينَ عملًا دؤوبًا وجهادًا خفيّا. 

يكبُرُ المشهد وتمتدّ الصّورة بكم جميعًا، يبارك الله في الجَمع ويتحلّق الأصحاب في الاستراحة والمصلى والسّطح. تتّسِعُ النّظرةُ ويخشع القلب متأملًا الطّريق.. سابحًا في السماء المرفوعةِ بغير عمَدَ، والجبال بأكنانها، والأرضِ! الأرض التي يخطو عليها.. 


أروى بنت عبدالله 
أرشيف ١٤٤٣هـ
نصّ بين: يوليو ٢٠٢١ - يناير ٢٠٢٢م 

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2021

أصوات (٢) نادي الثالثة صباحًا..

 

مرحبًا وحُبًا أصدقائي،
استلقيت مساء يوم الأمس رغمًا عنّي، بجسد منهك لا يكاد يتذكّر كيف مرّ يومه ووصل إلى الساعة الحادية عشرة، حاولت رفع الهاتف لأكتب بضع كلمات، فلم أستطع حمله خشية أن يسقط على وجهي، ثمّ التفت يسارًا أبحث بعينيّ عن سماعتي الصغيرة لأستمع إلى رسائل رفيقتي هاجر، لكن يدي لم تكن لتمتدّ طويلًا لتصل إلى الطاولة متناولةً السماعة، لم أستطع فعل شيء. تأمّلت الهاتف المستلقي ببطارية قليلة جدًا قد ينطفئ على إثرها قبل أن يرنّ منبه الفجر على الأرجح، لا بأس يوقظني الله بمن يسخّر. أغمضت عيني، وانتبهت بعد نصف ساعة على صوت الكلمات تكتب نفسها في ذاكرتي وأنا شبه نائمة، والآيتان الأخيرتان من سورةِ الحديد ما زالتا تترددان في أذني بصدى صوتِ عبير. 

وفي خضمّ كلّ ما قبل لحظةِ نهاية اليوم تلك، أخوض في الحياة باحثةً عن فكرة ومتأمّلةً في معنًى وسابحةً في ملكوت آلاء الله. أتأمّل خطواتي المتسارعة في ممراتِ كليّة الحقوق، وخطواتي المتسابقة بين كلية التربية وكلية العلوم، وخطواتي الهادئة بين وحدات المجمع الخامس قاصدةً محرابَ الحافظةِ الحبيبة. وفي معظم الأيّام، أتأمّل سعي النّاسِ الحثيث صباحَ كلّ يوم، أفسح الطّريق لمن يحمل في سيارته أطفالًا، وأتجاوز اللاهين بهواتفهم، وأرى مجازًا في العيون المشرّعةِ تشريعًا وبين يديها كوب قهوة أو شاي رباعيات محمود درويش..
"أرى ما أريد من النّاس:
رغبتهم في الحنين إلى أي شيء 
تباطؤهم في الذهاب إلى شغلهم 
وسرعتهم في الرّجوع إلى أهلهم". 
أدخل مكتبي وأتأمّل النّافذة بحثًا عن عائلةِ الحمامِ التي تسكن ثقبًا في المبنى المجاوِر، لمَ تأتِ الحمامة منذ بدايةِ الأسبوع.. هل طُرِدت مؤنستي من عُشِّها؟ عشّها؟ ألمحَ أحجارًا وآثار اسمنت حديث... غادرَ الحمام الزّاجل النّوافِذ، ولَن يواسيني مشهد الحمامةِ التي تسعى قُبيلَ ظهيرة كلّ يوم بين واجهةِ المبنى وساحتِهِ الخلفية عشراتِ المرّات ولا تعود إلا بشيء صغير لا يكاد يرى مقارنةً بحجم منقارها الصّغير. 

تساءلتُ مرّةً -قبل ثلاث سنوات- في تويتر قائلةً: كنت أفكر في اقتباس "⁦‪تهونُ‬⁩ علينا في المعالي نفوسنا"، لأي درجة يمكن للإنسان أن يضحي برغبات نفسه وراحة جسده وصحته وقربه من أهله حتى يصل للعلا حسب مفهومه؟ 
وبقيت أسعى مهونةً على نفسي الرّحلة بما بعدها، فيأتي ما بعدها ولا يتغيّر من النّصب شيء سوى أنّه ينصب في اتجاه آخر وبطرق مختلفة تغيّر علينا وتيرة الحياة فلا نضجر. لكننا نستمر... مؤمنين بأنّ كلّ الخطوات الصغيرة ستكبر! 

أتذكّر في الأثناء ومع ازدحام خطوط النهاية مطلع هذا الشّهر -بدءًا من ختام مقررات الماجستير وانتهاءً بختامِ سنتي الأولى في عالمِ المحاماةِ العجيب- أنني شرعتُ قبل عامٍ في قراءةِ كتاب نادي الخامسةِ صباحًا لروبن شارما. أوه! نادي الخامسة صباحًا؟ 


-قصاصة من الأرشيف- 


لطالما بدأتْ صباحاتنا بعد الفجرِ بأصواتِ طيورِ الحيّ ورِفاق الحلقات وديك الجيران بصياحِهِ المُزعج. وقت تسبّح فيه المخلوقات كلّها، وتقومُ أنتَ مع ناديك المفضل لتُسبّح الله وتذكره وتشكره، مع مجموعةٍ من الرّفاق. "هل في الدُنا شيءٌ يُعادِلُ بُكرةً؟ جرّب -فديتُكَ- نشوَةَ المستبكِرِ". أتذكر هذه الأسابيع أحدَ أشهرِ كُتُب رُوبن شارما الأخيرة (كتاب: نادي الخامسةِ صباحًا)، وأتساءل إذا ما كان يعرِفُ عن نادي الثالثةِ صباحًا! لابدّ أن الشخص العظيم والمتفرد والسبّاق في الميادين الذي يحاول صناعته وتدريبه بذلك الكتاب، سيصل. 

لكن، ماذا عن الذي يسبق أولئك العظماء، الذين يراهم العالم أفذاذًا في سباقات الدّنيا، بساعتَينِ! وإضافةً إلى الوقت، فهو يسبقهُمُ وبين يديه كتابٌ مُبين، ويحاول جاهدًا في ذلك الوقت الذهبي الثّمين أن يملأ قلبه نورًا منه. يقومُ من نومِهِ مُتعبًا فيتقوّى به، ظمآنًا فيرتوي منه، الكون حوله مظلم فيستدلُّ بنورِه، وموحِشٌ فيأنَس بكلامِ ربّه فيه. مَن أعظم من هذا عملًا ومنزلةً إذا أخلَص؟ ومن يسبِقُهُ في الميادينِ كلّها وقد صَدَق؟ 

"للهِ درُّ الناهضينِ مُبكرًا من لذّة النّوم العمِيقِ المُسكِرِ". 
لله درّ الرِفاقِ الذين تقطع أصواتُهُم تلك اللذّة المسكرة، قاصدينَ مولاهُم وكلّهم طمَعٌ فيما عندَهُ من أسمى لذائذِ النّعِيم. لله صوتُ الحافظاتِ المتفكّر في النّور لحظات القيامِ الأولى، وأصوات الذاكراتِ بعد صلاةِ الفَجر. للهِ صوتُ منبه الهاتفِ الذي يدوي في أذاننا خشيةَ أن يسلو منبه القَلب فتفوته المجالس التي تحفها الملائكة، للهِ الاتصالات الكثيرةُ المتكررةُ التي نتبادلهَا خشيةَ أن تفوّت واحدةٌ منّا الحلقة. للهِ صوتُنا المتحشرجُ أوَّل الصّباح، وأكواب الماء السّاخن تلفّ بيننا ليصفو فنصحح أخطائنا في التلاوة. 

ومعَ كلّ ذلك التأمُّلِ السّاكِنِ لأصواتِ الرّفاق، تتداخلُ أصواتُ الحياة الواقعيّة، لتذكّرنا أننا لسنا في نفسِ المجلس ولا في نفسِ البقعةِ الجغرافيّة. 

————— 

تذكّرت تلك القصاصة من أرشيف الملاحظات التي كنت أكتبها بين الفينةِ والأخرى أيّام الدورة المكثفة العاشرة. إن كان في الأيّام استشعار دائم للُطفِ الله الذي ملأ أوقاتنا بذكره، وغمرنا بكرمه، وأنعم علينا بمعاهدةِ كلامه والسّعي لإتقانِهِ تلاوةً وحفظًا وعملًا بإذنه، ورزقنا السير في طريقِ العلم النافع في مختلف المجالات، نسأله به العمل المتقبل والرزق الحلال الطيّب.. تطيب لنا الحياة ويهونُ حقًا كلّ ما نبذل، لأنّ العلياء التي نراها لن تكون علوًا في الأرض بل فردوسًا في السماء تهون دونه نفوسنا. 

بمثل هذا يدرك المرء معنى أنّه اختارَ دربَ الهُدى، وأنّه يريد أن يمنحَهُ الله المزيد. يومَ يستلذّ المشقّة التي تُعييه آخر اليوم، ويتَرَقّبُ لحظاتِ المسرّةِ التي تُشعِلُ فِيهِ جذوةَ حَثِّ الخُطى. فيفرح بما آتاه الله ويسأله الرّضى، "حمدَ الرّضا بحكمه لليقين بحكمته". ياربّ الذين رضيت عنهم ورضوا عنك.. 

أروى بنت عبدالله 
٩ جمادى الأول ١٤٤٣ هـ
١٤ ديسمبر ٢٠٢١م 
-أرشيف يونيو ٢٠٢١م-