الاثنين، 13 نوفمبر 2023

يُلقِي الرُّوحَ

   قد تعتاد التزامك بالأذكار، حتى تعمى عينك عن أثرها، فتغفل عنها شيئًا فشيئًا، ثمّ تتركها، تدخل من بعدها في دوامة غير مفهومة، كلّ شيء يسير لكن ليس بأفضل حال، تنقضي الأعمال بمشقة وتعب شديد، تتمّ الأوراد بجودة دون المستوى، شيء ما في الأرجاء يُحدث الفوضى في داخلك، ما الذي ينقصني يا تُرى؟

   تنقصك الرُّوح يا صديقي، تعتاد وجود الذّكر فتردده كمن يتمّ واجبًا، تدخل في خضم أعمال الأسبوع الكثيرة، تتنقل بينها كأنّك آلة صمَّاء يجب أن تكون في المشهد، تجلس على كرسي الطالب مستمعًا لا تتفاعل إلا قليلًا، تحاول الانطلاق بعد ريّ ظمأك بالوِرد لا قبله، لكن ما زالت بعض الأيام تقتنص منك تلك الجرعات، فتخرجك عطِشًا لا يقوى على قول كلمة.

   تصرخ أجزاء من جسدك تباعًا، استيقظ أنت متعب، توقف، توقف حالًا قبل أن تسقط، لكنك تتجاهل كلّ شيء وتمضي، حتّى سقطت بالفعل! انظر إلى حالك، جسد منهك لا يحملك إلى العبادة، مقصّر رغم أنفك بسبب ضيق النفس، ونائم رغم أنفك بسبب التعب العام، وقاعد رغم أنفك بسبب ضعفك، ومنكسر رغم أنفك بسبب عجزك، لا بأس، لا تخف، ها أبصرت الآن بعينِ التائب الآيب، لن يضيّعك الرحمن الرحيم أبدًا؛ فأنت مأجور رغم أنفك أيضًا إن سلّمت وآمنت ثمّ استقمت. 

   وانتبه! استعن بالله وتخفف من بعض ما ألزمت نفسك به، عُد إلى الذكر الذي غفلت عنه رُوحك بينما تردده لسانك، عُد فالأرواح لا تختلط وتتفاعل بغير قُرب القريب، ﴿رَفيعُ الدَّرَجاتِ ذُو العَرشِ يُلقِي الرُّوحَ مِن أَمرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ لِيُنذِرَ يَومَ التَّلاقِ﴾*. 

   أقبِل إليه، يشرح صدرك وييسر أمرك، يوفقك للتّوبة ويفتح من الرحمة ما لا ممسك لها، وينزل عليك من سكينته وفضله ورحمته بسعيك في سبيله ما لا تجده في غير مجالس ذكره مهما هاجرت، أنت عبد الوليّ الحميد، أنت عبد اللطيف الخبير، فتحقق بهذا الوصف تغنم، وتمسّك بالوحي تُهدى وتحيا، سقى الله قلبك من أوراده وبلّغك رضوانه
 

أروَى بنت عبدالله 
٢٨ ربيع الآخر ١٤٤٥هـ 
١٢ نوفمبر ٢٠٢٣م 
١٢:٣٠ص. ليلة الأحد. 

*[سورة غافر: الآية ١٥]


الجمعة، 3 فبراير 2023

جذوع النّخيل..

     أجول بنظري في الأرجاء، أتأمّل المنازل حولي، منها الجديد، ومنها ما تحت الصيانة، بينها ما لم يكتمل بعد، ومنها القديم المتهالك، هذا من حيث المباني! أمّا من حيث الحياة فمنها المخضرّ تُسمع من بين نخيله أصوات العصافير الصغيرة وهديل الحمام الزاجل، ومنها الأجرد باسم الحداثة في المعمار.
 
     أعود لأقربها إلى قلبي، أسلّم على جدرانه وأمر على كلّ أشجاره تحيةً وسلاما، أُسبِّح معها مساءً ساعة التجوال، بعد أشهر من استمرار المشهد وتكراره، أجد في نفسي أثرًا بالغ الوضوح، لي بيت ما زال تحت الصيانة، أسكنه وأحاول قدر المستطاع إتمام النواقص في الهيكل الذي غيرت بعض حدوده، أعمل جاهدةً لجمع شيء من المال حتى أتمّ جدران بعض غرفه، كما أنني لا أنفك عن زيادة أشجاره ونخيله على وجه الخصوص، كلما امتدّت الخضرة أمامي تذكّرت بساتين روحي الممتدة، أعتني بربيعها المزهر كأن لا شغل لي غير البستنة. 

     ورغم الجمال ولذائذ الثمارِ وعذوبة الماء، إلا أن الخراب الناتج عن التأخر في أعمال الصيانة، والغبار الذي لا يختفي أبدًا من أثره مهما نظفت فناء المنزل وحديقته الداخلية يزعجني، ويمنعني من الاستمتاع بالشرفة المطلة على تلك الخيرات، حتى أدركت أن ما صُرف للأنعام والحرث كان الأولى أن يُصرف لإتمام البناء الأساسي، كنت أعرف ذلك من البداية لكن التعلل بالتراخي في الأمر المطلق جعلني أقف على شفا حفرة، يدفعني نحوها كمّ هائل من الدّيون! "داينت أروَى والديون تقضى، فمطلت بعضًا وأدّت بعضا"، هكذا تمامًا، لكن الله سبحانه أنقذني بفضله ورحمته، فإذا بالحفرة تُردم بجذوع النخيل، وإذا بأيادي بالأعداء تقبض بل وتكسر أمام عيني، وتنتشلني يد عنايته فوق يدي الضعيفة المرتعشة التي بقيت ممدودة إليه. 

     يا ربّ ﴿غُرَفٌ مِن فَوقِها غُرَفٌ مَبنِيَّةٌ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ﴾، سلعة غالية لا أقوى على دفع ثمنها دون معونتك، أنا أفقر من أن أطلب علاها لكنني أطلبه من غنيّ! يتولّى أمر عبده الذي أُحصِرَ في سبيله لا يستطيع كثير ضرب في الأرض يحسبه الجاهل غنيًا وهو أفقر الخلق إلى حبّك وقربك، لا أُعرف بسيماءٍ ولا ألحّ في مسألتي إلا ببابك، اللهُمّ حبك وحب من يحبك وحب كلّ عمل يقربنا إلى حبك، كلّ عمل يا ربّ، كل عمل. 

أروى بنت عبدالله 
١٢ رجب ١٤٤٤هـ 
٣ فبراير ٢٠٢٣م 
الجمعة ٩:٠١م.