الخميس، 14 فبراير 2019

ما الذي صنعك؟



يصعب على الإنسان أن يصرِّح ببساطة أو وضوحٍ عن المواضع التي عومل فيها بدونية أو استصغار لأيّ سبب كان ومن أي كائن كان. لأن طبيعته البشرية أو ما خلقه المجتمع من شكليات يصنع فيه رغبة ملحة في تلميع صورته ليكون أفضل من شخص يعرفه أو شخصية مثالية رسمها له خياله. وقد يحالُ ذكره للحظات تخطيه مراحل حياته الصعبة إلى نرجسيةٍ أو غرور. وكلا الحالتين تؤثر على نظرة الإنسان لنفسه وتقدير استحقاقه لما يمر به من خير في حياته، ومن شر في حال تعرضه للسخرية في المجالس أو الإحراج في الأنشطة الإجتماعية. وتعامل الناس مع كل ذلك هو ما يصنع الاختلاف في حياتهم، وإن تشابهت ظروفهم. من هنا ننطلق إلى محاولة فهم الحقيقة التي تقف وراء نقاط القوة والضعف لدى كلٍّ منَّا، وأثر الظروف التي مررنا بها في حياتنا على تكون شخصياتنا، ثم إلى أهمية الاستقلال الفكري في بناء شخصياتنا وبناء الأمَّة. 

كثيرًا ما يعيد الإنسان النظر إلى مواقف مر بها في طفولته أو مرحلة ما من نضجه محاولًا كشف سبب تكوُّن بعض الصفات في شخصيته واكتساب بعض العادات، وتأثيرها على طريقة تعامله مع ما حوله من مجريات. وبعد معرفته لتلك الأمور يمكن أن يتوقع رد فعله لأنه سيكون بين أمرين لا ثالث لهما إما امتنان لما بناه أو انتقام مما حطمه. أما الامتنان فيكون نتاج حالة الرضا التي يعيشها مع وضعه الحالي والذي ما كان ليكون لولا ما مر به، يبدأ فيها بعدِّ المواقف التي أدرك فيها المعاني في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف". ومن القوة هنا أن يقف الفرد في وجه كل من يحاول زعزعة ثقته بنفسه وبما يفعله، وأن يتحدّى الفكر الجمعي لدى المتنمرين عليه بسبب اختلافِهِ. وعليه أيضًا أن يراجع تصرفاته مع الآخرين، إذ قد يتنمر هو بدوره على من حوله دون أن ينتبه وذلك من سعي عقله اللاواعي للانتقام، لأنه تعرَّض للتنمر أو الاستنقاص في حياته والذي قد يكون بدأ من سن صغيرة. وسعيه للانتقام قلب للأدوار، إذ يصبح فيه جانيًا بعد أن كان ضحيةً لتصرف عدواني تعرض فيه لنوع من الأذى. لذلك على الإنسان الواعي أن يسلط الضوء على طريقة تعامله مع نفسه والآخرين لما لها من أثر نفسي كبير وذا مدًى بعيد أيضًا عليهم وعليه وعلى المجتمع ككل. ومحاولة الضحايا للانتقام من كل من وما أساء لهم يُفسد قيم الفضيلة، ويرّبي في النفس العداء والكراهية للآخر، ويخلق مجتمعًا مهتز الأركان يحاول أفراده إستعادة شعور التفوق المسلوب منهم تباعًا، بالتسلط!  

إن إلقاء اللوم بشكل دائم وشائع على الظروف، هو العذر الذي يعمل بمثابةِ شمّاعة يعلق فيها الناس معاطف إخفاقاتهم وعثراتهم في الطريق التي حسبوها سلم نجاح وكانت لهم حفرة فشل عميقة، وما ذلك إلا بسبب إقصاء أنفسهم من دائرة المسؤولية. لو أنهم وضعوا نصب أعينهم قول الله تعالى {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ما يعني أن الله بيّن للإنسان طريق الخير وطريق والشر وجعل له الاختيار، واختياره يحدد ما ستسير عليه حياته، وتحدد طريقة تعامله مع الظروف الطريق الذي يريده لنفسه. ويبصرنا هذا أيضا بأهمية تعلم فن صناعة القرار، لأن القرارات كثيرًا ما تكون مصيرية وذات أثر مباشر على حياة الفرد. أذكر من هنا ما قاله ستيفن كوفي: "أنا لست نتاج ظروفي، أنا نتاج قراراتي"، والذي حمَّل فيه نفسه تكوين شخصيته، إيمانًا منه بأن القرار هو ما يحرك قارب حياته لا الظروف المناخية التي تحرك أمواج البحار. ولو آمن الناس بهذا، لأدركوا قيمة أن يكون لهم الاختيار وبين أيديهم القرار الذي يحركهم في أصعب الظروف وأحلك الليالي للوصول إلى ما خططوا له من أهداف. لا تنتظر الظرف المثالي لتغير حياتك، فالحقيقة هنا أنَّ الظروف السيئة جاءت نتاج قرارات سيئة، وخنوعٍ للملهيات التي أخذت الفرد من نفسه، ودفتعه بعيدًا عن تحقيق مسؤوليته المجتمعية إذ كيف عضوًا فاعلًا وصانع قرار وهو لا يعرف كيف يدير نفسه وما يمر به، وحمل مسؤولية ذلك للظروف. 

من هنا تأتي أهمية الاستقلال الفكري، علينا جميعا تحطيم فقاعة الناس المتشابهين التي صنعتها التقنية بمصطلح القرية الصغيرة. إن مصطلح الاستقلال عميق جدًا، فهو التحرر من كل ما قد يقيد حرية الاختيار بأي وسيلة كانت. يدخل المتحدث في ما يتعلق بالاستقلال في الفلسفة الأخلاقية والسياسية مثلًا. وجاء ذكر الاستقلال الذاتي في علم النفس بمفهوم "قدرة الفرد العاقل على صنع قراره الذاتي أو قانونه بنفسه من دون تدخل من أي طرف آخر سواء كانت الدولة أو المجتمع. ويتم استخدام هذا المصطلح للإشارة لتحديد المسؤولية الأخلاقية لتصرفات الفرد". وذكرت الاستقلال الفكري على وجه الخصوص هنا، للإشارة إلى أن فكر الإنسان السليم القوي القويم هو ما يحدد قدرته على صنع قراره، فالذي يقرر بناءً على مبدئٍ ثابت وقيم راسخةٍ لا يمكن أن يغيره شيء ولن يصبح لعبة خفيفة يتقاذفها هواه أو ألسنة الناس. والمبادئ التي تبنى على أساس متين يتمثل في القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي التي يمكن للإنسان أن يكون قويًا بها، ومستقلًا بفكر سليم وعقل متفتحٍ على الحقائق ومتسلحٍ بها.

ختامًا، تذكر أن ما يُحدث الفرق في حياتك عن حياة الآخرين هو خطابك لنفسك، وطريقة تعاملك مع الظروف التي تمر بها لا الظروف نفسها. انتبه لحديثك مع نفسك وما تظنه بها، صوتك الداخلي أكبر مؤثر على تحركاتك، ازرع فيه المسؤولية الذاتية والمسؤولية المجتمعية لتكون المؤمن القوي الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسعَ لتكون ذا أثر طيب. تذكر أنّك امتداد أفكارك لا نتاج معاملة سيئة تعرضت لها في طفولتك. لا تتعذر بالظروف، ولا تسمح لأحد أن يختطفك. لا تجعل آراءك رهينة المشاهير والحكومة، تسلّح بما تستطيع من علوم. اقرأ، اقرأ، اقرأ ثم اكتب وقرر ماذا ستكون وفي أي صف ستقف.  

أروى بنت عبدالله
١٩ ديسمبر ٢٠١٨ م. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق