تنبِضُ قلوبُ المُحبِّين من شدّةِ الشّوق كلّما اقتربَ موعدُ اللقاء، حتى إذا أذِن الله للهلالِ طلعتَهُ البهيّة، عكَفَ المتبُول قلبًا في محرابِهِ يُسبِلُ الدّمعَ لا يجدّ انفكاكًا عن حالِه، يعرُج على بابِ الكرِيم مفتقرًا ضعيفًا، لا يُعرَف متى ابتدأ ليله أو نهاره، مشتغِلٌ حدّ أنّ الذي حسبته مشكاة نُور؛ ضياءٌ لا يكادُ يَغرُب.
يا صاحبي، هلّ الهِلَال!
يدنُو الحَبيب شهرُ الحبيب، وبقدِر الشّوق تستعدُّ لقيامِهِ وصيامِهِ والعملِ فيه، تقضي ديونَك المادية والمعنوية، والعلمية والعملية، والجسدية والرّوحية، تتخفف منها متخذًا بالسبب، وسائلًا العليّ القديرَ القبولَ والرّضوان، يا ربّ اجعلني قرآنًا في شهرِ القرآن، قرآنًا فَوْقَ الأرض وتحت الأرضِ ويوم العرض.
لا تَكُنِ المغبونَ في صحته وفراغِه، "تبلّغ بالقليلِ من القليلِ، وهي الزّاد للسفرِ الطويل"، ها أمامنَا شهرٌ بالتّمام بعدِ شهرٍ حرامٍ مضى قبله، نسألُ الله بلوغَ الخير بخير، ولباسَ النور بالنور، بنعمةٍ وعافيةٍ وستر، وأن يُلحِقَنَا بالصّالحين.
انفُض عنك غبارَ الغفلة إن فَتَر ذكرك، أو لم يزِد وردك منذ مدّة، قُم وتوضأ؛ أسبغه على المكاره، ثمّ افزع واركع لعلّ الله يوقِظ عزمَك، "يا صاحِ دنيانا طريق، والعَيشُ عيشُ الآخرة"، ساعِدِ اللهفةَ المشتعلةَ فيك، حَافِظ عليها بالمسباحِ بين أصابِعِك، وافتح باحاتِ النُّور الواسعة بالسجادة في محرابِك.
للقراءِ نصيبُهُم الوافِر من ربيعِ المؤمن هذا، ليل طويل يقومُ فيه حتّى تتفطّر قدماه شوقًا لشهر الرحمات، ونهار قصير بالكادِ يجفّ فيه ريقهُ وهو صائم، صوتٌ مبحوح من ملازمةِ صاحبِهِ القرآن، وقد رُزِقَ تلاوته آناء الليل وأطرافَ النّهار، مستقبلًا شهر تنزّله وعرض النّبي ﷺ له على جبريل -عليه السلام-.
أبدو كمن يسرُدُ الصورةَ المثاليةَ عن هذه الشُهورِ المباركة، ولست يا صديقي في ذلك المقام غَيْرَ أَنِّي أراه في الصّالحين الذين يَصِفُهُم الله في آيات كتابه، وفي شخص رسوله العبدِ المقرّب منه منزلةً عليّةً ﷺ، وفي سلُوكِ صحابته رضوان الله عليهم، وفي التّابعين لهم بإحسانٍ من أولياء الله.
وأعزّي نفسي في كلّ مرّةٍ بمزيدِ عمل، بخطةٍ تلو الخطة، وحزمٍ مع كلّ عزم، وأستحثُّها للعملِ بما تعلم؛ فأراجِع حتى ينقطع صوتي، وأقوم حتى يخترق صوت النّبض أذني من التعب، وأقرأ حتى تدمع عيني لفرط ما شرّعتها، ثمّ ماذا؟
يشاء الله في رجب أن يصيبني ما أصاب من حولي من أعراض البرد، شهر بلا نوم ولا قيام مستمر، نصف ساعة بين النوم واليقظة، بين الكحة والحمى، ونهار قصير بالكادِ أستيقظ فيه واللوعةُ تقذِفُ بي في بحر لجّي، يا لشدّة ما أجد من فقد الجلوسِ الطويل مع صاحبي، لا أنفاس تسعفني لسرد جزء منه ولا طاقة لتكرار صفحة الحفظ الجديد، …
كم ليالٍ مرّت ما ظننت أَنِّي سأنام فيها ساعة، وإن نمت فقد لا أستيقظ، وحالما أفزع في منتصفها من كحة خانقة وحرارةٍ صدقَ فيها الحياء "فليس تزور إلا في المساء"، حتى علمت أن الصُّمود بعد الفجر لمراجعة شيء من السور أقرب للمستحيل.
لكن رحمة الله واسعة، يدُ لطفه الخفية لا تنفكّ عنا في الضراء والسراء، وقد انتشلتني يد عنايته بالصّيام، تفقد قوتك حتى تظن أنك هباءة، فيبعثك الله بالإمساك عن كلّ مصادرِ القوّة لتدرِك معنى قضاء الواحد القهار في كلّ أمرك، لا تقوى على ترداد الآيات لكن جسدك يحمل على ما هو أشق بإذن ربّه، فما يكون لك إلا أن تقول بيقين الواثق بربه "ذلك تقدير العزيز العليم".
اللهُمّ أحينا بعبادتك لعبادتك، وبذكرك لذكرك، وبالصيام في شعبان للصيام في رمضان، اللهُمّ بلّغنا وأهلنا وأحبابنا بلوغًا ترضاه، وأقِل عثار من عثر وردّه إليك ردًا جميلًا، اللهُمّ كما مننت علينا بمجالسِ القرآن وفقّنا للعمل بما نعلم ومكّنا واجعلنا من جند الفتحِ والنّصرِ المبين.
أروى بنت عبدالله
١ شعبان ١٤٤٥هـ
١١ فبراير ٢٠٢٤م
١١:٤٥م. الأحد.