لم تفارقني صورتك واقفًا على عتبة باب مجلسك، أو جالسًا مقابلها عند النّخلة. وبعد مغرب تلك الأيّامِ الثلاثة كنت أنتظر دخولك حاملًا أكياس الخبز للعشاء، ومناديًا على بنيّاتك ليحملنها عنك.
جلست كثيرًا حتّى نسيتُ كيف أتحرك أو أتحدّث، يعزيني الكثير من الغرباء هنا ولا أعرِفُ كلمة سوى آمين، حتى سمعت ابنة خالتي تقول "لله البقاء والدّوام"، ابنة خالتي التي كنت تناديني باسمها دائمًا، ورفيقةُ الحُجّاج كما أسمّيها في قلبي دائمًا. كان وجودها جالسةً على يميني كلّ يوم عزاءً وذكرًى لا أستطيع تجاوزها بغير الدّعاء والبكاء. ولطالما ذكّرني وجودها بابتسامتك العذبة وصوتها الحاني الخجول من تكرار الموقف وضحك الجمع الذي يكون حاضره.
خرجت مع خالتي في الليلة الثالثة، مرافقة لها نحو منزلها، أمشي عن يمينها وأتأمّل امتداد أرض جدّي الحبيب رحمه الله، لقد أذِنَ الله أن تبقى هذه الأرض حيّة، وأن تُعمر مجددًا وتُزرع، رغم تقسيماتها الكثيرة واختلاف ملاكها، وما زال البيت الأوّل الذي وضع فيها قائمًا وإن كان مهجورًا.. وفي طريقِ العودة إلى بيت خالي رحمه الله، لم أتمالك نفسي أمام فكرةِ أنّك هنا لكنك لست في منزلك الذي عن يميني، وإنّما في منزلكِ الذي عن يساري، رفقةَ جدتي وجدي وابنيك الذين فجعت بفقدهم..
دخلت وفي داخلي صوت يقودني نحو المساحة الخضراء، أتأمّلها وأتذكّر حديثك كلّ مرة عن جديد ما زرعت وما استحدثت لريّها، عن طلع النّخل وثمار الليمون، وعن عملك على التنّور. وأُذن في القلب، يتردد صدى صوتك حولها، تشرح بسرور شيئًا من خططك وتلقي بينها طرفة تلو الأخرى.
ينقطع شريط الذكريات ذاك فجأة، بصورتك في المشفى بلباس أزرق، تنقل بين غرف الترقيد وغرف العناية المركزة. لا أملك من أمري شيئًا سوى أن أردد ﴿فَاللَّهُ خَيرٌ حافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ﴾، أستيقظ كلّ صباح على صوت أبي يتواصل مع كلّ من يعرفهم ليتمّ نقلك إلى مشفًى آخر، ترتفع الآمال كثيرًا ثمّ يهدّها اتصال، تبدو كلّ الطّرق مُغلقةً تارة ثمّ تنفرج كأن لم يكن عائق.. لماذا لا يستقبلون المريض قبل موعده إذا كانت حالته طارئةً جدًا والعناية في مكانه سيئة جدًا؟ لماذا يتمّ تجاهل حالة المريض النفسية بل ويزيدونها تدهورًا؟ أكره هذا اليأس في أعين الأطباء، وأبغضه جدًا في عيون من حول المريض.. هذا التعلّق المطلق بالأسباب، الذي يقطع حبل الإنسان الأقوى بربّه!
هل يموت المريض لأنه مريض ويحيا الصحيح لأنه صحيح؟ لا والله، لم يكن ابتلاء الله لعباده إشارة موت بل تذكرةً لمن يخشى! هل يتذكّر الغافل الذي لا يعرف معنى الخشية من الله؟ الذي لا يستحضر إيمانه باليوم الآخر في كلّ تفاصيل حياته؟ كيف ينتفع بالتذكرة من لا يعي معنى أن الحركة والسكنة والكلمة والنظرة تقوده إلى جنّة أو تهوي بهِ في نار! إذا لم تتذكّر لحظة لقاء ربّك في مشهد جليل كالموت فهل في قلبك من خشية الله مثقال ذرة؟ "أتظنُّ حينَ تعداك الموت أنّهُ لن يصلك؟ ثمّة ليلة كهذه متكوّرة بالفقد ستكونُ باسمك أنت، كُن مستعدًا".
وتذكّر أنّ "جذر كلّ صلاح في الإنسان أن يكون قلبه مطلًا على مشهد الآخرة. وجذر كلّ فساد أن تغيب الآخرة عن القلب، فتنفك كل عُرى الخير فيه".
وقد قال تعالى: ﴿كَلّا بَل تُحِبّونَ العاجِلَةَ* وَتَذَرونَ الآخِرَةَ﴾.
أروى بنت عبدالله
٢٥ شعبان ١٤٤٣ هـ
٢٨ مارس ٢٠٢٢م
١:٠٣ ص، الإثنين