الخميس، 24 يونيو 2021

بينَ اختبارين..


انتهى الاختبار النظري الثاني من اختبارات الدورة المكثفة العاشرة قبل دقائق. عندما عدت لمراجعة بعض إجاباتي وجدتُ ثلاثةَ أخطاء. أردت أن أضرب الطّاولة بقبضتي بعد عصير المخّ الطّازج الذي نتَجَ عن مذاكرةٍ مكثفةٍ حتّى آخر لحظة. رددت بهدوء ويقين، ياربّ يارزّاق، ياربّ يارحمن يارحيم يارزّاق. 

ثم تذكّرت أختي القرآنية، الغَالية. حين كنّا نتحدّث ظهرًا عن هاء الكناية، فأخبرتها أننّا ننتظر اسمها في رأس قائمة متميزات الأسبوع، فقالت: جميعًا ياربّ. وبعد معرفةِ أخطائي تلك، ولحظةَ كُنت أجمع الأوراق لأعيدها داخل الكتاب بشيء من الحُزن، تذكرتُ حديثنَا فقفز على لساني دعاءٌ جعلني أقفُ مشدوهةً جدًا.. "لا نريد أن يتخلّف أحدنا عن الجنّة ياربّ". 

سرحتُ طويلًا... يكفي المرء نعيمًا استشعار لُطِف الله به، وتذكيره له، بأن الغاية جنّة عليّة لا نريد أن يتخلّف عنها الأحبّة، أهلنا وأصحابنا! وما بَذْلُنَا في هذه الدّروب وجهادنا إِلّا خطوات يسيرة وحجارة صغيرة نبني لأنفسنا بها بفضل الله الدرجات التي سنعلو عليها بكلّ حرفٍ وكلمةٍ وآية. نريد بها ألّا نتوقف عن الصّعود حتّى نبلغ الفردوس، نطمعُ ألا تكون آخر آيةٍ نقرؤها قبلها ولو بقليل. 

ندرك أن الغاية من الوقوف على آيات القرآن تَلَمُسُ طريق الهِداية، أن يجعلنا الله مهتدين به وهادِين. أن يقبلنا عنده عبادًا صالحِين. أن يتقبّل أعمالنا فيباركها ويزيدها ويقرّبنا بها إليه -جلّ وعلا-. فهل سنَبلُغ؟ هل يبلغ المتعثّر مقام راحته، والظمئان مورد ريّه؟ نسألُهُ القَبول، أن يقبلنا عِنده، أن يجعلنا من أهلِهِ.. وخاصّته. 

بين اختبارين، اختبار صغير تعلم أنّه طريقٌ يوصلك للنجاح في الاختبار الأكبر، لكنه حتمًا ليس كلّ شيء! تحسس موضع الآية في قلبك، وفي قالبك. ابحث عن سبيل لتطبيقها حتّى تراها حاضرة فيك وفيما حولك. واحفظ حقّ الله وحدوده ليحفظك الله بالقرآن. كُن قرآنًا يمشي على الأرض كما كان رسولنا الحبيب ﷺ، وقف على ثغرك بعزّ وعزم وقوّة وثبات. واعلم أن في سعيك للتحرّك به، زيادة في الإيمان وفي التقوى فلا تفتر. 


أروى بنت عبدالله 
١٣ ذو القعدة ١٤٤٢هـ 
٢٤ يونيو ٢٠٢١م 

الأربعاء، 9 يونيو 2021

عن فُسحةِ الرّوح..


يخطو الإنسان في دروبٍ كثيرة، يحتار بينها تارةً ويتخبّطُ تارة. يجد في أحيان دربًا يظنّه سرمديًا، ويرى فيه بصيص نور النّفق الذي يريد أن يصل إليه ليُطِلَّ منه على فسحة الحياة، الفسحةُ التي صوّرتها لنا القصص كروضةٍ غنّاء، بنهرٍ جارٍ وخريرٍ عذب، تغريد طيور الكناري في الهواء الطّلق وتردد صداه الآسر بين جبالٍ شاهقةٍ، وهضابٍ سهليّة تُغري الخارج من ظلمة النّفق بنيلِ قِسطٍ من الرّاحة على أعتابها. لكن تلك الخيالات تتلاشى مع صوتِ أوّل خفّاش، يداهم الشّاقَ طريقه، فجأة، ليخبره أن الطريق خطأ وأن هذا الدّرب لا يفضي لشيء. 

لا عليك يا صديق، لا تحزن، يوجد درب حقيقي مثل ذلك، وأنفاقه ليست مظلمة ولا سوداء، بل وخالية من الخفافيش. عن نفقٍ في آخره مصباح ﴿المِصباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوكَبٌ دُرِّيٌّ يوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيتونَةٍ لا شَرقِيَّةٍ وَلا غَربِيَّةٍ يَكادُ زَيتُها يُضيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نارٌ نورٌ عَلى نورٍ يَهدِي اللَّهُ لِنورِهِ مَن يَشاءُ وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ لِلنّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾. عن نُورِ الله الذي يتوهّج في قَلبِ المؤمن، فيجعله كوكبًا دريًّا دون قلوب كثيرٍ من أهلِ الأرض. عن ذِكْرِ الله لشجرةِ الزيتون المباركة وزيتها الذي يضيء صفاءً ونقاءً. نور لا يضاهيه نور، وفتيلٌ إذا مسّته النّار أشرق أكثر واجتمعت معه الأنوار.  

وفي وقتٍ استثنائي مثل هذا، نُحِبُّ ذِكْرَ الأنفاق رغم الرطوبة وضيق النّفس الذي فيها، لأنّها طريق النّصر ومصدر القوّة والعزّة للأُمّة الإسلاميّة جمعاء. وأنت كذلك في نفقك السائر به إلى عليائك، يقيّض الله لك رفاقًا لم تتوقع وجودهم في حياتك، ولم تعرف كيف دبّر الله اجتماعكم وألّف بين قلوبكم لتتحلّقوا حول كتابه تجاهدون لإتقان تلاوته. بهذا الجَمعِ ننتصر مئات المرّات، وبه نبلغ فسحةَ الرّوح المُخضرّةِ في آخر النّفق. إنّه الطّريق الوحيد الذي لا يمكن أن تعدّه طويلًا وإن شقّ عليك لأنّك على يقين من وجود الجنّة على أعتابه. 

اعرف أن دليلك فيه ومصباحك، قلبك الذي بين جنبيك. احرص على جودةِ الزّيت الذي تغذيه به، على صفاء سريرته ونقاء مخبره، ليختاره الله كوّة لنُور القرآن، نور الهداية والبركة والرّضا. ويختارك لتكون من أهله، أهله وخاصته، فيكرمك بهالةٍ وضّاءة، تغشاك بها السّكينة في دنيا الكدر والنّصَب. ثمّ يكرمك بروضةٍ ونور منذ انتزاع روحك التي ستبقى في روضةٍ من رياضه، ويكرمك بظلال عرشه، وتيجانٍ من نور، "من عُلُوٍ لعلو لارتقاء، بين أصحاب القلوب الأتقياء". صعودًا على الدرجات إلى الفردوس الأعلى، لتتقابلوا على سرر موضونة، دانيّة عليكم القطوف ومذللة لكم ثمارها. 

تزاحمني الدّمعات وأنا أكتب صورةً من النّعيم المُعجّل الذي يمنحه الله جلّ جلاله لصاحب القرآن. فيرزقه من أهله قرّة عين، تثبّته وتشدّ على كتفه، ويرزقه من النّاس أصحاب، يصبر نفسه معهم، فلا تعدو عيناه عنهم تريد زينة الحياة الدنيا. ومن الحديث عن نعمةِ الله على العبد الفقير إليه، أتلمّس فضلَ الله وكرمه عليّ إذ رزقني الأمرين، "‏وما زَالَ يُولِيني الجميلَ تَلَطُّفًا.. ويَدفَعُ عنّي في صُدُورِ النَّوائِبِ". 

وفي المواضع التي يتجلّى فيها كرمُ الله، أتأرجح في الغالب بين شعورين، شعور الرّضا وسكينة المحِبّ الذي يبلغه من محبوبه الحسنى، وشعور مرتبط بهَمّ القَبول يجعلني أردد اللهم لا تجعلنا من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا. ويالِ ما في همّ القَبولِ من منعطفات، لا يتجاوزها السّاعي دون استحضار نيّته وتعميق إيمانه وإخلاص عمله. وما أعظم أن يستمر سيره متسلحًا بالدعاء، ومطهرًا قلبه بالذكر الكثير، شاكرًا وحامدًا ومستغفرًا ومكبرا. 

أختمُ هُنا، بِسْم الله الرحمن الرحيم، ذي الفضل العظيم الذي سحَّ دفاقًا بالمُنى، فبلّغني ورفيقات الحلقة المتقدمة لحظة البشرى والالتحاق بالدّورةِ المكثفة لنادي إتقان التلاوة هذا الصّيف. لنكُون تحت ظلاله نسابِقُ خُضرةَ الخريف، ونغرِف من معين لا ينضَب، سائلين الله التّمكين والقَبول والفوز بالرّضوان. وبهذا يُفتَحُ لنا باب جديد، نقترب بدخوله من روضةٍ أرحَب ونسأل الله أن نصعد به درجةً أرفع. وتبقى همزةُ الوصل الوثيقة ورابطنا بكلّ الرفيقات في مختلف المراحل، الغايةُ الكُبرى التي نسأل الله جمعًا مباركًا على ضفاف أنهارها.  

أروى بنت عبدالله 
٨ يونيو ٢٠٢١م