الأحد، 21 مارس 2021

أرنب خلفَ شجرةِ الكلمات

 



عندمَا أشارت لي دَانية بترشيحها للمشاركة في #تحدي_التأمل، وبعد أن رأيت صورة الأرنب في قصّة أليس وصورة الأمير الصغير وبين يديه الزجاجة التي تغطّي وردته الحبيبة.. تذكرت أرنبًا بنيًّا صغيرًا كان يعيش معنا في المنزل، أرنب لطيفٌ ووديع. 

عُدت ذاتَ مساءٍ من العمل، وصعدت إلى العليّة مباشرةً أتفقده. وقد أرسل أخي قُبيلَ الظهيرةِ يومها، خبرًا ثَقُلت من وقعِهِ قدمَاي، وبقيت واجمةً أحدّق في الهاتف من هولِه.. حتّى بعثَ صورةً للأرنب الصغير تُؤكد قوله. ما أسوأ شيء يمكن أن يحصل لأرنبٍ يتقافزُ كلّ صباحُ في أرجاءِ المنزل؟ تستيقظُ الطّفلة في داخلي كلّ فجر باحثةً عنه، يأتيها راكضًا فتربّت على رأسه وتداعبه قليلًا، تنزِلُ إلى المطبخ لتعود إليه بوريقاتِ خسٍ وملفوف، وتمسكها له حتّى يأكلها كلّها. أرنب مدلّل يبتعد عنها ويدسُّ نفسه تحت الكرسيّ إذا كانت ملقاةً على الأرض، يعودُ إليها إذا فرغ صبر جوعه فحسب. 

أخذتكُم بعيدًا عن الخبرِ المُوحشِ صحيح؟ في الحقيقة، لقد كُسرت قدما أرنوب الخلفية.. ووجدّته في العليّة منزويًا في الطّرفَ الأيسر منها، مبتعدًا عن طعامه وشرابه. ناديته النداء المعتاد فالتفت التفاتةً لا تكاد تُلحظ، لم أكن لأتمالك نفسي وقتها لكنني فعلت.. حتّى اللحظة التي رأيته فيها يسحب نفسه مبتعدًا... حملته وقرّبته من الطّعام فأبى التقامه، الخس، الجزر، الملفوف، الخيار، ... يا إلهي ماذا أفعل! هل تأثر جهازه الهضمي؟ هل يرفض الطعام بسببه؟ أم أنّه ألم الخلع فقط؟ ... ما الذي يفكّر به الطّفل إذا شعر بالألم؟ نعم تمامًا، "أريد مسكّن الألم بالفراولة".. أسرعت لإحضاره، قطرتان من مسكن الألم في ملعقة ماء ستكون جيدةً للأرنب الصغير. 

ثمّ ماذا؟ هل تعتقدون أن الأرنب الصغير شربها دون أن يصرخ كالأطفال أو دون أن يشيح بوجهه بعيدًا؟ رفض الشرّاب كما رفض الطّعام.. يا إلهي! لا يمكن أن تموت جوعًا يا أرنوب.. إذا رفضته حتّى نهاية اليوم فأنت باسم الله مذبوحٌ لا محال. لكنِ الآن، لن أتركك هكذا، أخذت قطرات من الدواء المخلوط بالماء، ومسحتها على فمه. توقف عن تحريك نفسه، وأخرج لسانه الصغيرة لتنظيفه.. الله! الحمدلله، الحمدلله.. قطرةً بعد قطرة لعق أرنوب الدواء ثم أمال رأسه نحو صحنِ الطّعام رفع نفسه بيديه محاولًا التقام شيء. عصرة ليمون في الخضار كانت خيارًا جيدًا، بدأ يأكل قليلًا قليلًا.. شرائح صغيرة جدًا من الملفوف، ثم حبّة خيار صغيرة. هذا جيّد، إنّه بخير.. جهازه الهضمي بخير. ثمّ تمددّ كما يتمدد الطفل الصغير أوّل الصباح! وقدماه! استطاع تحريكهما، يمدّهما بشكل جيّد لكنّه لا يستطيع إعادتهما، لا بدّ أن المشكلة من نهاية ظهره أو مفاصله العلويّة.. 

بقلبِ الطّفلة المشغول بكلّ شَيْء والمنشغل بأرنب صغير يتألم، تراءت لي هرولةُ رسول الله ﷺ إلى طفلٍ غابَ عن ساحة لعبِ أقرانه لأنّ عصفوره الصّغير مات، مواسيًا قال عليه صلوات الله: "يا أبا عمير، ما فعل النُّغير؟".. ليسَ في هذا الحُزنِ ما يدعو للسّخريةِ أو الاستصغار، بل ما يدفعُ نبيّ الله الحبيب، المكلّف بأمورِ الأمّة جمعاء وتبليغ أعظم رسالة، أن يقصد بيت أبي عمير ويطبطب على حُزن فقده. تخيّل أن تربط طفلًا صغيرًا بقصصه ﷺ مع الأطفال حوله، أن يذكروه في حزنهم وأفراحهم الصغيرة، أن تسمع اسمه ﷺ يتلى على ألسنتهم بسيرته، كان رسول الله إذا حدث كذا فعل كذا، كان يقدّم في مجلسه الطّفل الجالس عن يمينه على كبار الصّحابة، كان يرّش الماء من فمّه على وجه الطّفل الواقف إلى جانبه عند البئر. وإذا غضب الطّفل لا تنهره وتعنفه، بل تذكّره بالرّجل الذي جاء رسول الله يسأله أن يوصيه فيقول ﷺ "لا تغضب"، هل تصدّق يا أخي أنّه قالها ثلاثًا؟ لقد سأله الرّجل ثلاث مرّات وردّ عليه "لا تغضب!".. ثمّ هيّا، لنأخذ نفسًا عميقًا يا أخي، أطلق يديك كطائر واستنشق الهواء بأنفك ملء رئتيك، توقّف، أخرجه من فمك الآن.. 

حسنًا، أنا لا أتذكّر قصّة أليس في بلاد العجائب ولا أعرف ماذا يفعل الأرنب في قصّتها، لكنني أعرف الأمير الصّغير الذي أهداني المؤلف قصّته شخصيًا بقوله "هذا الكتاب للطفل الذي كانه هذا الرّاشد"، مذكرًا بالطّفل الذي لن يكبُر ‏"كل الراشدين سبق وأن كانوا أطفالًا (رغم أن قلّة منهم فقط تتذكر ذلك!)". ثمّ، بإشارةٍ ضمنيّة لصديقي الأرنب، الذي أطعمته صباحًا بعض الخس قبل أن أذهب للعمل وأعود وقد أُخذ إلى بائع الأرانب ليعتني به. كيف سيعتني تاجرٌ بأرنب؟ التّاجر الذي يطعُمها ليبيعها، أو ليأكلها إذا لم تصلح للبيع.. هل سيعتني بأرنوب حقًا؟ كنت أعتني به بشكلٍ جيّد، لم أتخلّ عنه أبدًا، لكنّه انسل من حياتي بشكل مباغت وهادئ جدًا. لا بأس ببعض الدموع "إنّه لمن المحزن أن ينسى المرء صديقًا، فليس كل الناس لهم أصدقاء". لهذه المخلوقات أرواحٌ تحبّنا كما نحبّها، تعرفنا كما نعرفها، وتشتاقنا كم نشتاقها، إنّهم أصدقاء حقيقيّون لا يتبدّل ودّهم. 

مضى أسبوع على الحادثة، ولا زلت أدعو أن يكون التاجر ذاك طيّب القلبِ ولم يأكله أو يرمي به لقطط الشارع الشرسة الشرهة.. أن يكون تاجرًا رؤفًا ومُحتسبًا أجر إطعامه لتلك الحيوانات الضعيفة في سبيل الله.. ألّا يكون كتجّار الخيول الذين يطعمونها ويعتنون بها من أجل السبّاق فإذا فشلت باعوها دون أي اعتبارات معنويّة، أخبرني أخي مرّة أنني أُهلك نفسي بالعناية التي أبذلها للحيوانات معنويًا، كان صادقًا لكن قوله لم يكن رادعًا. ومؤخرًا، حزنتُ عندما وقع فيما وقعت فيه من حُزن، لمّا فقد أحدّ أحبّ خيول أبي إليه. كلّنا أطفالٌ أمام هذه الأحزان، كلّنا أبو عمير، ننتظرُ سؤال النّبي "ماذا فعل النُّغير؟"... 

أروى بنت عبدالله 
٧ شعبان ١٤٤٢ هـ، الأحد 
٢١ مارس ٢٠٢١م. 
١٢:١٧م. 

*الصّورةُ لأرنوب الغائب، نائمًا، بينما كنت أغلّف هديةً لصديقتي. 
*الاقتباسات من كتاب الأمير الصّغير لـ أنطون دو سانت أكزوبيري.
وعلى ذكّر الأمير الصغير التي تعدّ قصّته من الأدب الفرنسي، نذكّر بـ #مقاطعة_المنتجات_الفرنسية