من المؤسف أن كلّ هذه الأفكار يوالدها الحُزن، وتتابع المصائب. هل تُصنّف هذه الأفكار ضمن الإلهام؟
إن كانت كذلك فالشخص هو الموت، أو .. مَلَك الموت ربما؟
خمس جنائز في أقل من شهر، خمس جنائز. لا تكاد تُرفع أثواب العزاء وتنَظف المجالس إِلّا وجثمان جدٍّ آخر محمول بين أيدي الرّجال يدخُلهامجددًا. تجتمع كلّ الجدّات، بانكسارِ من غيّب الموت فلذات أكباده وأحباب صباه، ودفعته الحياة عمرًا يعيشه بكلِّ هذا الفقد. لا تجفّ محاجردموعِهِنّ، ولا ينكفئ اهتزاز شفافههن ولا تمتماتهنّ عن الدّعاء.
صافحتُ أيادٍ كثيرة، كثيرة جدًا. أشعر بأن يدي حمّلت عبء ذاكرَةٍ جديدة، أشعر بين فينة وأخرى بملمس الأيادي التي صافحتني، بحركتها،انسحابها وشدّها على الأطراف، تتذكر يدي ملمس الأيادي التي حاصرتها بعناق، ظاهرها وباطنها. وأكثر ما تشعر به، اتكاء الجدّات عليهاعند مسيرهن، وشدّهن على ساعدها لأجلس بالجوار.
لا أريدُ ذِكر الأجداد وذكرياتنا، يبدو الأمر أشبه بكذبةٍ نحاول بالكلمات تصديقها، حتّى أنه إذا جاء ذكر جدّي ولَم نتبعه بـ-رحمه الله- يقفزأحدنا مُذكِرًا -رحمه الله- هل نَتَصافَعُ بالحقيقة؟ أم أنّها لبيّنتهَا تعمينا؟ كيف أن اليقين الذي يصحب جمع الناس المُعزين ما زال محلّ شكّ،وأن شيئًا من أمل على لقاءهم باقٍ فينا؟
في كلّ مرّة أرى فيها صورةً لجدّي، أسأله بيقين العارف "هل رحلت عنّا يا جدّي؟" وبحيرة المرتاب من شعوره أتدارك بِضَعَ الشكّ "سلّم علىالأحباب يا حبيب". كنتُ يوم وصلَ جثمانه أمسك برأسه وأهزّه طالبةً منه أن يقوم "قُم يا جدي، قُم. قُم يا جدي ..." قطعت صوتي غصّة البكاء لمّا فجّرت ينبوعًا تلو الآخر، تراصّت أسناني وأنا أحاول كبحه لأوصل الحديث معه، لكن مشهد ابنة خالي على يميني تضرب رجليها جعلنيأتدارك نفسي وأمسك بيدها، تفقأ هذه المشاهد التي التقمتها الذاكرة عين القلب مُفجّرةً فيه ينابيع تغذي البئر السّحيقة التي يهوي بِنَا الحُزنُإلى قعرها، مرّةً بالصّور ومرّة بالمقاطع الصوتية، ومرّات كثيرة بما في الذاكرة وبالخيالات. نحنُ نهوي بوعي ودون وعي، كدلوٍ يشربُ منه الموت دموعه، فيهوي به الحزن إلى بئر لا تنضب. يملأ له دموعًا أحرّ يقول بها: ستَفقِد وتُفقد، ستبكي كثيرًا ويُبكى عليك، لا تنفد هذه الدّموع ولن،...
أروى بنت عبدُالله
٧ ذو الحجة ١٤٣٠ هـ
٧ أغسطس ٢٠١٩ م
٩:٣٧ م.
*الرسالة الثالثة عشرة من تحدٍ على حسابي في تويتر arwalabri